كشف عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي الهمجي الراهن، من قصف بري وجوي وبحري، على قطاع غزة أنه الأكثر دموية وعدوانية، نظراً لعدد الشهداء والجرحى والخسائر المادية وكسر البنية التحتية منها الصحية والتعليمية والاقتصادية من جهة، والقوة العسكرية المفرطة المستخدمة من جهة ثانية، وما يعاني منه الفلسطينيون من العقاب والانتقام في الضفة الغربية من جهة ثالثة.
هذا العدوان يمكن تكييفه بتحوّل نوعي في الحرب الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي بعد عملية أكتوبر 2023، وقد أسقطت هذه العملية العسكرية التاريخية كثيراً من الأقنعة تجاه القضية الفلسطينية إقليمياً ودولياً ومنها أوروبياً، حيث بات المتتبع للحرب الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي خلال العقود السبعة الماضية عموماً، والخمسة الماضية خاصة، أي بعد حرب 6 أكتوبر 1973، أن الوعي الجمعي العربي ازداد انتكاساً وإحباطاً، وأصبح القادة العرب يسعون مهرولين إلى التطبيع والقبول بعقلية الأمر الواقع بوجود الاحتلال الإسرائيلي، ومحدد استدامة الصراع الذي فرضته السردية الصهيونية في بعض وسائل الإعلام العربية، وحتى في أوساط بعض النخب الفكرية.
تغزّل اليمين المتطرف العنصري الشعبوي لليمين المتطرف العنصري العبري.
الشيء اللافت للانتباه خلال هذه الحرب الانتقامية هو الموقف الغربي الرسمي المساند غير المحدود للحكومة اليمينية العنصرية المتطرفة الإسرائيلية، والأمر الغريب المضحك المبكي كذلك، في عالم أصبح مجنوناً يمشي على رأسه: هو تعاطف واصطفاف اليمين العنصري المتطرف في أوروبا عموماً وفرنسا خاصة بمساندته اللامشروطة من الرئيس إيمانويل ماكرون وإعلامه المحفز لخطاب الكراهية والإسلاموفوبيا وطرح البرنامج الانتخابي لمارين لوبان الرئيسة الشرفية لحزب اليمين المتطرف (التجمع الوطني) الجبهة الوطنية سابقاً، وغريمها إريك زمور، رئيس حزب أقصى اليمين المتطرف (استرجاع)!
لقد أنجز اليمين المتطرف العنصري صاحب الإرث الفاشي وتاريخه الأسود العدائي لليهود في فرنسا نصراً إعلامياً وانتخابياً، مما جعل ساسة وقادة اليمين المتطرف الديني العنصري في حكومة الاحتلال الإسرائيلي يلقى اهتماماً كبيراً في فرنسا في وسائل الإعلام الثقيل، سواء عبر القنوات الإخبارية صاحبة الرأي Opinioned على غرار C-News والمجلات الأسبوعية اليمينية المتطرفة مثل Valeurs Actuelles و Le Journal du Dimanche.
إن هذا يعتبر تطوراً تاريخياً لهذا التيار المعادي للعرب والمسلمين، الذين شيطنوا أبناء الجالية العربية والمسلمة في ضواحي المدن الكبرى، متهمين إياهم بمعاداة السامية، وفي هذا السياق لم ينجُ من هستيرية إعلام اليمين المتطرف ضد المسلمين المتدينين، حتى الرياضيين المحترفين على سبيل المثال اللاعب الدولي الجزائري "يوسف عطال"، لاعب نادي نيس لكرة القدم في الدوري الفرنسي الموجود تحت الرقابة القضائية والممنوع من مغادرة التراب الفرنسي، في انتظار محاكمته المقررة في الـ18 ديسمبر/كانون الأول الجاري، بتهمة التحريض على الكراهية على أساس الدين في تغريدة كان قد نشرها على موقع إكس.
تاريخ اليمين المتطرف العنصري ومعاداة السامية
لدى اليمين المتطرف في فرنسا تاريخ طويل بمعاداة السامية، إلا أن مارين لوبان في فرنسا وحزب زعيمة حزب "إخوة إيطاليا" في إيطاليا بدوا كأنهما جيل جديد في أوروبا اللاتينية يريد أن ينفصل عن جيل أبويه، داعماً حكومة الاحتلال الإسرائيلي المتطرفة العنصرية، هذا الجيل يحاول أن يتموقع كحليف ديني قوي مع سردية الاحتلال الإسرائيلي في ظل عدوانها على المدنيين في فلسطين المحتلة في إطار ديني أشبه بالصدام بين الهلال والصليب.
كما يسعى هذا الجيل من المتطرفين إلى العودة الى إقامة علاقات وثيقة وطوي صفحة الماضي بين اليهود والنازية والفاشية وحكومة فيشي في فرنسا مثلاً، ومن المؤكد أن لا أوروبا ولا فرنسا تستطيع أن تدير ظهرها لإسرائيل. وقد شهدنا ذلك خلال العدوان الهمجي الممنهج الراهن على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
إنّ النخب والإعلام الإسرائيلي في الغرب لا يزالون يستغلون مسألة "ظلم" أوروبا المسيحية لليهود، وتحميلها مسؤولية تاريخية عما اقترفه النازيون والفاشيون في أوروبا وفرنسا خصوصاً وسياسة التمييز العنصري والاضطهاد. .
وفي هذا السياق على سبيل المثال لا الحصر، قامت حكومة "نظام فيشي" وهذا الاسم الذي أطلق على الدولة الفرنسية، التي أنهت الجمهورية الثالثة بعد هزيمتها أمام الجيوش النازية، إذ خضعت فرنسا المحتلّة إلى نظام سلطوي يرأسه المارشال فيليب بيتان، الذي قبِل التعاون مع النازيين، حيث صدر في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 1940 مرسوم كريميو، الذي يمنح حق التجنس لليهود عام 1870، وتواصلت حملة اعتقالات اليهود في باريس عام 1942، ألقت الشرطة الفرنسية القبض على 12 ألفاً و884 يهودياً، وأكثر من 4000 منهم أطفال، في العاصمة باريس وضواحيها بعد اتفاق بين السلطات الألمانية النازية وحكومة فيشي. حيث دافع إريك زمور عن المارشال بيتان، وهو يزعم أن المارشال بيتان رمز نظام فيشي المتحالف مع النازيين، والذي حكم فرنسا خلال الحرب أنقذ يهوداً فرنسيين من المحرقة النازية.
غياب الواقعية
أفرزت تداعيات عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي الهمجي والبربري الراهن على الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية على الداخل الفرنسي، حيث تعيش أكبر جاليتين عربية – إسلامية ويهودية في أوروبا، وتسعى السلطات الفرنسية لإدارة هذا الأمر في سياق يعرف صعود خطاب الكراهية والمعادي للعرب والمسلمين الذي عُممّ في الإعلام وعند المحللين السياسيين على القنوات الإخبارية، والدعم المطلق اللامشروط لإسرائيل وعلى "حقها المشروع في الدفاع عن النفس" كما أقرّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وكل الطبقة السياسية باستثناء حزب اليسار فرنسا الأبية الذي تمركز في معادلة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن: من ليس معنا، فهو ضدنا.
في ظل هذا الانقسام والاحتقان الإيديولوجي في الأوساط السياسية الفرنسية وإعلام يمنح صكاً على بياض لساسة اليمين المتطرف، إلى درجة أن هذا اليمين يتحضر في مجلس الشيوخ الفرنسي لدراسة مشروع قانون جديد، قدّمه 16 عضواً في المجلس، أغلبيتهم من اليمين التقليدي (حزب الجمهوريين)، يجرّم ويدين كل أشكال التعبير عن إنكار وجود إسرائيل، أو يهين بأي شكل إسرائيل ويثير الكراهية ضدها. حيث أصبح النص في لجنة القوانين الدستورية والتشريع والاقتراع العام والتنظيم والإدارة العام، على أن يحدد المجلس موعداً لقراءة أولى للمشروع الذي، بحسب المجلس، يعتبر تكميلياً للإطار الجنائي معاداة الصهيونية.
قد تكون الجبهة الوطنية الفرنسية نجحت في إبعاد تهمة معاداة السامية عن نفسها منذ أن تزعمتها مارين لوبان، غير أن العدو الأول برأي الحزب اليميني المتطرف بات "التيار الإسلامي"، وهذا قد ينتج تجاوزات وأخطاء في حق المسلمين، برأي اختصاصيين.
قبل أسبوعين، عرفت فرنسا مسيرة كبرى ضد معاداة السامية دعا إليها رئيسا مجلسي الشيوخ الفرنسي ورئيسة مجلس النواب الجمعية الوطنية، وشارك فيها رؤساء سابقون ووزراء وقادة الأحزاب السياسية باستثناء حزب فرنسا الأبية وفنانون يهوديون، حيث أثارت هذه المظاهرة خلافات بين الأحزاب السياسية. هذه المسيرة شاركت فيها أيضاً مارين لوبان، وبالتالي يكون حزب آل لوبان قد اجتاز نقطة فاصلة، وهي أنه يقف بشكل مضاد مع لجان ماري لوبان والد مارين لوبان، الذي لم يكن يعترف بـ"غرف الغاز" إبان الحرب العالمية الثانية، إذ وصفها بأنها جزئية صغيرة في التاريخ.
وذهب الإعلام اليميني المتطرف العنصري إلى أن ما يحدث في فلسطين المحتلة قد يكون له رد فعل في الضواحي الفرنسية والأحياء التي تعيش فيها جاليات عربية ومسلمة واسعة، وأن هذا الغضب قد يتحول إلى أعمال عنف على غرار أحداث انتفاضة الضواحي في الصيف الماضي، التي وقعت على خلفية مقتل الفتى نائل، علماً أن الموقف الرسمي صادر عن إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون والمزاج الفرنسي العام الداعم بصراحة للاحتلال الإسرائيلي.
خلاصة، في حين يتواصل الاهتمام الإعلامي الفرنسي بحرب إسرائيل على غزة وعلى أطوار الهدنة الإنسانية بين قادة مخابرات إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، لا يزال هذا الإعلام أيضاً في حالة نكران للمجازر التي تقترفها إسرائيل في غزة، وتسليم للسردية الصهيونية الغربية بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس، وأنهم في حرب على الإرهاب، حسب قراءتهم لسياسة الاستعمار والاستيطان والاستلاب الثقافي وسياسة التمييز العنصري؛ ووفق التصور الفرنسي الرسمي، فإن منطق الحرب مرشح لأن يطول حتى يحقق قادة إسرائيل أهدافهم الاستراتيجية لهذه الحرب، وهو القضاء على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة.
بناءً على هذا، فإن باريس فقدت مصداقيتها تجاه الملف الفلسطيني، ولم تعد فرنسا قادرة على العودة إلى محددات السياسة العربية الفرنسية التقليدية أو الحديث عن قيام دولتين والشرعية الدولية والقانون الدولي التي ترفضها وتضرب بها عرض الحائط دولة الاحتلال الإسرائيلي المحمية من أي محاسبة بغطاء الغرب الرسمي المنافق. الذي لا يزال يرتجف من لفظ كلمة إدانة تجاه مجازر إسرائيل، كما صرّح وزير الخارجية والوزير الأول في إدارة الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، دومينيك دوفيلبان: "بسبب خوفكم من نقد إسرائيل، فرنسا تحوّلت إلى بلد صغير جداً" رداً على اتهامه بمعاداة السامية وانتقاده التضييق على كل من ينتقد إسرائيل.
تبقى جريمة الشعور بعقدة الذنب! تجاه اليهود في أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً من طرف التيارات اليمينية المتطرفة العنصرية الشعبوية، هذه العقدة يتم استغلالها في الأزمات الداخلية والإقليمية والدولية للتصعيد في مواجهة ذلك العدو المفتعل وهو الإسلام وحربهم لمواجهة خطر أسلمة أوروبا، حسب ما يزعمون، وهو مربط الفرس في علاقة اليمين المتطرف العنصري والصهيونية الغربية، سواء كانت دينية كما هو الحال في أمريكا، أو علمانية كما هو في فرنسا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.