قبل أيام قليلة فقط تطرقنا هنا لأهمية تبني فناني "الراب" لقضايا تهم أوطانهم ومجتمعاتهم، وقد شاهدنا خلال أوبريت "راجعين" انتفاضة الجيل الجديد من الفنانين على الواقع وكسر الصورة النمطية التي تكبل تحركات فناني الصف الأول في الوطن العربي، ولم يتأخر "الراب التونسي" في التفاعل مع كلامنا، ورأينا كيف أصدر بعض الفنانين الشباب أغاني مخصصة لطوفان الأقصى، وتضمنت عبارات صريحة وواضحة، بعيداً عن الكلام المعلب والشعارات المتهالكة التي تسللت لأغاني البعض، وتماهت مع عبارات الجامعة العربية وخطاباتها الركيكة العتيقة.
خلال الأسبوع الماضي فقط أصدر فنان الراب التونسي الشهير باسم "جنجون"، (اسمه الحقيقي عمر الطويهري) أغنيةً بعنوان "أراضينا"، وبعده بساعات قليلة احتضن اليوتيوب أغنية أخرى لرابور آخر يصنف ضمن خانة المشاغبين وهو "كلاي بي بي جي"، واسمه الحقيقي أحمد بن أحمد، الذي اختار اسماً لافتاً للانتباه لعمله وهو "لا سمح الله".
كما أسلفت الذكر هنا علاقتي ليست قوية بهذا النمط الموسيقي، وتحديداً في تونس الخضراء؛ لكن ما جادت به قريحة هؤلاء الشباب يستحق منا التوقف عنده ملياً، لاسيما الكلمات القوية المباشرة والضرب على الوتر الحساس دون قيود ولا مواربة، وهذه ميزة ينفرد بها "الراب"، والأجدر استثمارها في مواضيع تهم الواقع المعاش بدل الانغماس في تبادل الشتائم والكلام الفاحش تحت شعار "التحرر"، والمفاجأة الكبرى في أغاني مثل "أراضينا" و"لا سمح الله" أن أصحابها لم يتوانوا في نقل مفردات صارت عنوان المرحلة الحالية التي يخطها أهل غزة العزة بمداد الفخر والشرف، والمستمع للأغنيتين سيجد عبارات من قبيل "لعنة العقد الثامن" و"المسافر صفر"، بالإضافة إلى شخصيات مثل أبو عبيدة ومصطلحاته التي يحفظها الجميع عن ظهر قلب منذ السابع من أكتوبر.
هذه الجرأة في نقل الواقع وتجويده في قالب موسيقي مميز تعيد للراب العربي الاعتبار، وتبعد عنه الشبهات، وتكشف بوضوح عن جيل شاب متشبث بالقضية الفلسطينية، ويتنفس معاناتها، ويتوق للانعتاق والحرية، والمطلوب الاستمرار في تثبيت هذه العلاقة والنوعية من الخطابات الموجهة لفئة الشباب، بدل شعارات جوفاء أكل الدهر عليها وشرب، وانتهت صلاحيتها، وكشفت حقيقتها المتوارية، وأسقطتها المقاومة الفلسطينية بالضربة القاضية، ومهدت لميلاد قاموس جديد يبشرنا بفجر الخلاص والحرية.
ومن النقاط الموازية التي تصب في ذات الإطار لا بد أن نستحضر أغنية "طوفان الألتراس"، التي طرحها ما يعرف "باتحاد ألتراس العرب"، والذي يضم أكثر من 14 ألتراس أو رابطة تشجيع عربية، توحدت كلها من أجل تجهيز هذا العمل الغنائي التضامني مع الأهل في فلسطين، كل هذه النماذج تندرج في خانة "البدائل الجديدة" التي تغزو الساحة الفنية العربية بمسميات مغايرة ونفس متحرر وأصوات لا تجامل ولا تمسك العصا من الوسط.
ولعلها ثورة جيل "زد" الذي لا يهادن ولا يجامل، ويسمي الأشياء بمسمياتها دون تردد ولا اعتبارات، والسؤال المطروح هنا وبحدة: هل سيتأثر باقي الفنانين وبالأخص "الوتريين" بالموجة الجديدة، التي باتت تكتسح الفضاء الفني العربي اليوم، وبالتالي تجبرهم على الانخراط أيضاً في تبني قالب ونمط آخر غير الذي تعودوا الاشتغال عليه؟ ومتى سيدرك هؤلاء وغيرهم الكثير أن الزمن تغير، وكلمة السر هي فلسطين، التي ظن البعض أنهم نجحوا في وأدها سياسياً وفنياً وإعلامياً، لكنها انبعثت من جديد وبقوة خارقة أكبر من سابقتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.