انعكس الأثر الاقتصادي المدمر للحرب الإسرائيلية على غزة على الموارد المالية الشخصية، وأسواق العمل، والشركات، والصناعات، والحكومة الإسرائيلية نفسها. وتكشف البيانات المُستقَاة من مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي أنَّ واحدة من كل ثلاث شركات، إما أغلقت أبوابها أو تعمل بطاقة 20% منذ بدء عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول، التي أحدثت صدعاً في الثقة الوطنية الإسرائيلية.
وتواجه أكثر من نصف الشركات خسائر في الإيرادات تتجاوز عتبة الـ50%. وتتحمل المناطق الجنوبية، الأقرب إلى غزة، العبء الأكبر، حيث ثلثا الشركات إما مغلقة أو تعمل "بالحد الأدنى" من قوتها التشغيلية. ومما يزيد من الأزمة، أنَّ وزارة العمل الإسرائيلية تفيد بأنَّ 764 ألف مواطن، أي ما يقرب من خُمس القوى العاملة في إسرائيل، عاطلون عن العمل بسبب عمليات الإخلاء، أو إغلاق المدارس، وما يترتب عليه من مسؤوليات رعاية الأطفال، أو الاستدعاء للخدمة الاحتياطية.
وقد كبّدت حرب غزة الاقتصاد الإسرائيلي ما يقرب من 12 مليار دولار حتى الآن، بالإضافة إلى خسائر إضافية بقيمة 260 مليون دولار مع كل يوم يمر. ومن المتوقع أن تبلغ تكلفة الصراع الذي سيستمر 60 يوماً أكثر من 17 مليار دولار. ويقول الباحثون في إسرائيل إنَّ هذا الصراع يكلف الحكومة الإسرائيلية 2.5 مليار دولار شهرياً.
وتشير أرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أنَّ السفر دولياً لا يسهم إلا بنسبة 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل ويدعم 230 ألف وظيفة، أي ما يزيد قليلاً على 6% من إجمالي القوى العاملة. وعلى الرغم من الجهود المتواصلة طوال عام 2022 لإنعاش السياحة، شهد شهر أكتوبر/تشرين الأول انخفاضاً هائلاً بنسبة 76% على أساس سنوي. وتسبّبت عملية فيضان الأقصى بمزيد من الضرر لحركة السفر؛ إذ انخفضت الرحلات الجوية اليومية من وإلى مطار بن غوريون من 500 إلى 100 فقط، وذلك مقارنةً بتجاوز عدد الوافدين الدوليين 370 ألف شخص في أكتوبر/تشرين الأول 2022. ومع عدم وجود نهاية للحرب في الأفق، ومع فرار المستوطنين أنفسهم بأعداد كبيرة، يبدو من غير المرجح أن تصير تل أبيب وجهة شهيرة لقضاء العطلات مرة أخرى في أي وقت قريب.
الحرب التي أرهقت الاقتصاد الإسرائيلي
أصدر مئات الاقتصاديين الإسرائيليين تحذيراً صارخاً لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، معربين عن مخاوفهم بشأن التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد، وحثوا على اتخاذ إجراءات فورية. وفي تسليطٍ للضوء على نقص الوعي لدى السلطات بخطورة الأزمة الاقتصادية، قال الاقتصاديون: "إنَّ الاقتصاد الإسرائيلي يواجه فترة صعبة، ويجب اتخاذ إجراءات فورية لمنع حدوث أضرار كبيرة". وفي مواجهة خطورة الوضع، دعا الاقتصاديون إلى تحول جذري في الأولويات الوطنية وإعادة تخصيص بنود الميزانية لمعالجة آثار الحرب، ومساعدة الضحايا، وإنعاش الاقتصاد. وشددت الرسالة على أنَّ نفقات ما بعد الحرب قد تصل إلى عشرات المليارات من الشيكلات، وحثت رئيس الوزراء ووزير المالية على مراجعة جميع بنود الإنفاق في موازنة 2023 على الفور.
فيما توقع معهد سياسات الأمة الناشئة (Start-Up Nation Policy Institute) في تل أبيب حدوث "أزمة اقتصادية وشيكة، لا تزال قوتها غير معروفة" بناءً على المسح الذي أجراه. وقد أبلغت 80% من إجمالي شركات التكنولوجيا الإسرائيلية عن أضرار ناجمة عن تدهور "الوضع الأمني" في البلاد، في حين سجل ربعها "ضرراً مزدوجاً، سواء في الموارد البشرية أو في الحصول على رأس المال الاستثماري". وأكثر من 40% من شركات التكنولوجيا لديها اتفاقات استثمارية تأخرت أو أُلغيت، و10% فقط تمكنت من عقد اجتماعات مع مستثمرين.
ومن ناحية أخرى، تدرس إسرائيل خفض قوات الاحتياط بسبب التكاليف الاقتصادية المرتفعة؛ إذ تنظر السلطات الإسرائيلية في "خيار التسريح نظراً لارتفاع التكلفة الاقتصادية التي تؤثر سلباً في اقتصاد البلاد". وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أنَّ "التكلفة الشهرية لجنود الاحتياط تبلغ نحو 5 مليارات شيكل (نحو 1.3 مليار دولار) وتكلفة أيام العمل الضائعة لجنود الاحتياط تُقدَّر بنحو 1.6 مليار شيكل (نحو 427 مليون دولار)".
اقتصاد الحرب لا يمكنه الصمود للأبد
فقد انخفض الشيكل الإسرائيلي إلى أدنى مستوى له منذ 12 عاماً، وخفّض البنك المركزي توقعات النمو الاقتصادي هذا العام من 3% إلى 2.3%، وتواجه الصناعات البارزة اضطرابات. ودخلت إسرائيل الحرب باحتياطيات نقدية بقيمة 200 مليار دولار ومساعدات بقيمة 14 مليار دولار، معظمها لغرض التمويل العسكري، من الولايات المتحدة. ومع ذلك فإنَّ الصراع الدائر سوف يُكلِّف الاقتصاد الإسرائيلي مليارات إضافية، وسيستغرق التعافي منه وقتاً أطول كثيراً، مقارنة بالصراعات الماضية. إذ كلّفت المواجهتان السابقتان –عامي 2006 و2014 – ما يصل إلى 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي وأثّرتا بالأساس في قطاع السياحة. لكن هذه المرة، "تشير التقديرات إلى انخفاض بنسبة 3.5% إلى 15% على أساس سنوي" في الربع الأخير من هذا العام.
وستتسبب هذه الحرب بتكاليف إضافية، مقارنة بهاتين المواجهتين السابقتين أيضاً بسبب المشاركة الكبيرة لجنود الاحتياط، الذين يدخلون إلى سوق العمل في الأوقات العادية، لكنهم يغيبون عن وظائفهم خلال الحرب. وإذا طالت الحرب، فإنَّ تأثير نقص الموارد البشرية سيؤدي إلى تكلفة باهظة على الاقتصاد الإسرائيلي.
وأعلنت وكالة موديز في 20 أكتوبر/تشرين الأول أنها تراجع التصنيف الائتماني لإسرائيل -الذي يقف حالياً عند "A1"- لاحتمال خفضه. وكانت وكالة "فيتش" للتصنيفات الائتمانية أعلنت مطلع الأسبوع الماضي أنها وضعت التصنيف الائتماني لإسرائيل عند "A+" تحت المراقبة السلبية بسبب المخاطر الجيوسياسية. وفي حين أكدت وكالة التصنيف الائتماني الدولية ستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني لإسرائيل عند "AA-" في 25 أكتوبر/تشرين الأول، إلا أنها غيرت توقعات التصنيف من "مستقر" إلى "سلبي" بسبب المخاطر الجيوسياسية.
وتتوقع وكالة التصنيف الائتماني ستاندرد آند بورز انكماش اقتصاد الحرب الإسرائيلي بنسبة 5% في الربع الرابع من العام المالي، وتضخم عجز الميزانية إلى أكثر من 5% من الناتج المحلي الإجمالي في عامي 2023 و2024 مقابل التوقعات السابقة البالغة 2.3%. وأرجَعَت وكالة التصنيف أسباب الانكماش إلى "انخفاض النشاط التجاري، وانخفاض الطلب من المستهلكين، وبيئة استثمارية غير مؤكدة للغاية"، فضلاً عن استدعاء عدد ضخم من جنود الاحتياط". واتسع العجز المالي في إسرائيل بالفعل إلى 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي في أكتوبر/تشرين الأول، من 1.5% في الشهر السابق.
وقدر قسم الأبحاث في بنك إسرائيل في نهاية أكتوبر/تشرين الأول، أنَّ تكاليف الحرب ستؤدي إلى زيادة العجز الحكومي إلى حوالي 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، من 1% في التوقعات السابقة، وإلى حوالي 3.5% في عام 2024.
وكتب محللو ستاندرد آند بورز: "يمكننا خفض التصنيفات بشأن إسرائيل إذا اتسع الصراع توسعاً جوهرياً؛ مما يزيد من المخاطر الأمنية والجيوسياسية. ويمكننا أيضاً خفض التصنيفات خلال الأشهر الـ12 إلى 24 القادمة إذا ثبت أنَّ تأثير الصراع في النمو الاقتصادي لإسرائيل ووضعها المالي وميزان المدفوعات أكبر مما نتوقعه حالياً".
ووفقاً للباحثين الماليين في إسرائيل، كان هناك انخفاض كبير في الإنفاق عبر بطاقات الائتمان، وذكر أنَّ الناس لم ينفقوا الكثير. ووفقاً لتحليل نشره مؤخراً بنك JP Morgan، فإنهم يقولون إنَّ الاقتصاد الإسرائيلي سينكمش بنسبة 11% هذا الربع. وتراجعت سوق الأوراق المالية في تل أبيب بنسبة قياسية بلغت 15% بالقيمة الدولارية -أي ما يعادل نحو 25 مليار دولار. وتشهد العملة الإسرائيلية، الشيكل، أسوأ أداء لها منذ عام 2012. وأعلن البنك المركزي عن حزمة دعم بقيمة 45 مليار دولار لمنع هذا الانخفاض السريع للشيكل. لكن لا يكون لحزم الدعم هذه معنى كبير مع استمرار الصراعات وزيادة تأثيرها. إنَّ حالة الصراع تُبعِد الاقتصاد الإسرائيلي عن الاستقرار أكثر يوماً بعد يوم. ولا يبدو وضع الاقتصاد الإسرائيلي جيداً، سواء من حيث التمويل أو الأرصدة الجزئية أو الأرصدة الكلية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.