بمرور الأيام وتداعيات الحدث، وبقراءة صحيحة، يتأكد لنا أن "طوفان الأقصى" كانت ضربة في العمق، وستمس بشكل مباشر مفاصل السياسة في العالم، وأن تداعياتها ستستمر لسنوات.
أعتقد أن قراءة الحدث من خلال متابعة شريط الأخبار، وتفاصيله ويومياته، ليس هو الطريقة المثلى، لتدرك جميع ملابساته وتداعياته، فقد تستبد بك العاطفة، لهول المآسي اليومية، فتقع في ردة الفعل، من توزيع اللوم وإيكال التهم، ويجنح بك النظر عن جوهر القضية، فتخطئ القراءة المتكاملة للحدث.
وإنما تكون القراءة الصحيحة، بالتأمل طويلاً في ملابساته، وقراءته بعمق في سياق العقود الثماني الأخيرة على الأقل، وما صاحبها من مقدمات وترتيبات طيلة هذه المدة، حتى لا تغيب عنا الحقائق الكبرى، مع تزاحم الأحداث، وسط الأخطبوط الإعلامي الغربي المضلل.
أما القتل الممنهج، والدمار والتهجير والحصار، فهي ضريبة قاسية يدفعها الأطفال والنساء والقصّر في كل الحروب، وتتحملها الشعوب الحرة بكل صبر وجَلد، إنها التضحية بكل معانيها.
إننا نعيش اللحظة التاريخية الحاسمة، التي كانت تترقبها شعوب الأمة، وينتظرها أحرار العالم، ويتخوف منها الكيان وحلفاؤه، وخططت لها المقاومة بعناية شديدة.
وهي انفجار الوضع في فلسطين، الذي كان سببه المباشر هو الحصار، لكن السبب الحقيقى هو الاحتلال الذي وصل إلى خطوته الأخيرة في تصفية القضية الفلسطينية، وبلغ ذروته في الاستعلاء والفساد، {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} الإسراء: 7.
لقد كانت أولى نتائج المعركة هو سقوط هيبته، وانكشافه على حقيقته، وانهيار الفزاعة التي أرعبت العالم. وقد ظل اللاعب الأكبر من وراء الستار في السياسة الدولية طيلة 75 سنة الأخيرة. فهي تمثل المشهد الأكثر دراماتيكي الذي لم يشهده الكيان المحتل من قبل.
لقد كانت ضربة معلم، وأصابت في العمق، استغرقت ساعات قليلة فقط، لكنها تركت جرحاً عميقاً، لا يمكن شفاؤه ولو بعد سنوات، إلا باستئصال هذا الكيان، وكسر هيبته، وتحجيم تأثيره، وإعادة ترتيب لتوازن القوى في العالم من جديد.
المعركة التي بدأت في 7 أكتوبر صباحاً، وانتهت في اليوم نفسه ظهراً، لكنها كانت زلزالاً شديداً، نقطة إحداثياته في غزة، وارتداداته كانت على كل المفاصل الكبرى للسياسة والاقتصاد والأمن في العالم.
فلا يزال هذا الكيان وحلفاؤه يتخبطون، ويحاولون الاستفاقة من هول الضربة، ولملمة قواهم التي أصابت كبرياءهم وهيبتهم في العمق. وما سنعيشه في السنوات القادمة، ما هي إلا تداعيات، ستطال كثيراً من أركان الدول الغربية والعربية على حدٍّ سواء.
وأعتقد أن الأمة أمام المواجهة الفاصلة التي ذكرتها الشرائع، وتحدّث عنها العلماء، واستشرف حدوثها الاستراتيجيون والخبراء والمؤرخون. والحديث على سنة 2023م كبداية لحرب التحرير الكبرى قديم ومتداوَل، لطالما تحدث عنه الكثير بلغة الواثق في المؤتمرات الدولية، وفي الخطابات والمقالات والكتب، والتي تُجمع كلها على هذه اللحظة التاريخية، وقرب نهاية الاحتلال.
أما الجديد الذي لم يتنبأ به أحد، فهو عنصر المفاجأة، لم تستشعر به أجهزة المخابرات الإسرائيلية، لا "الموساد" ولا "أمان" ولا "الشاباك"، وخطة الهجوم التي أبهرت الكليات العسكرية.
إن يوم 7 أكتوبر الصاعق، سيكتبه التاريخ يوم عيد لفلسطين وفرحة للأمة. أصبحت فيه وجوه الناس إما "ضاحكة مستبشرة" لمن كان يوقن بهذا الحدث وينتظره بشوق. وإما يوم شؤوم على أعدائها.. {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} لمن كان يتمنى إطالة عمر الاحتلال، مخافة أن يطاله هذا الانفجار العظيم والزلزال الشديد.
إنه القدر الرباني الذي ساقنا إلى هذه المعركة الفاصلة، كما نزل هذا القدر نفسه على أهل بدر، ليكون الفاصل بين عهد الضعف والدفاع، إلى عهد القوة والهجوم. {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.