تسود عالمنا الفوضى، نشعر أن لا حاجة لقانون دولي يحكم الصراعات، ولا ما يحكم البحار والتجارة والاقتصادات والعلاقات، لا حاجة للتنظيم على مستوى العالم، دعوا مسؤولي الدول أنفسهم يفعلون ما يشاؤون، دعوا العالم يتفرج على أفعالنا البطولية وغيرها، دعوهم يرون خيباتنا ونجاحاتنا، اندفاعاتنا وارتعادنا بوازع منا لا من القانون، دعوا العالم يسير في سكيكه الضيقة، لا مدخل إلا واحد، ولا مخرج إلا واحد هو الحكم بالقوة، القوي هو من يحكم هذا العالم، ولا عزاء هنا للقانون.
هل هذا ما تطمح فيه دولٌ متحضرةٌ كدول أوروبا وأمريكا؟ أين ذهبت مراحل التغيير في هذه المجتمعات، تلك المراحل التي انتقلت فيها من الظلم والعبثية إلى عصر التنوير والحضارة؟ هل ما زالت تُحكَم بقانون البطش والرعونة والانتقام؟ وهل ما زالت تتباهى بقيم القتل والتنكيل ممن دونها في القوة؟ كيف لهذا العالم أن يستقيم دونما ميزان تكون له اليد الطولى في كل شيء؟
مشكلة عالمنا أنه يعرف المخرج، يعلم ما يوصّل إليه، أو ما يمكن أن يوصل إليه لكنه يصمت، يتراخى مع التزمّت لأنه يعلم أن قانوناً آخر سيطبَّق عليه! يدرك أنه كيف للقوي الرضوخ لرأي الآخرين؟ وكيف لا يكون له صوت مختلف عن غيره؟
ما فائدة كل هذه الإنجازات لتأتي دول صغيرة يتساوى صوتها مع صوت تلك الدول؟ كيف لها أن تتضامن مع حق يراه القوي باطلاً؟ حتى ولو كان يغرد وحيداً؛ فمن حقه الاستفراد برأيه، لأنه قوي، صنع حضارة غابوية تحميه، كما صنع تلك الدويلات، بينما اعتقد الآخر أنه يعيش ضمن قانون محكم، وهذا قصور عقلي، لم يدرك منذ البداية أن الأمور لا تمضي كما أحلامه واعتقاداته.
دولنا تصدق القانون الدولي، وتتقيد به لدرجة أن سكوتها وعدم تحريك جيوشها إلى الآن، برغم الفظائع التي ترتكبها الآلة الغابوية، جعلنا نعتقد ظناً أنها خرجت عن الإسلام ووجب الإطاحة بها، ولهذا وجب أن نعتذر لحكوماتنا فإنهم ضعفاء في مقابل أقوياء، هم لا يرغبون في حكم القانون، لكنكم ملتزمون به لأن لا شيء غيره أمامكم، نعذركم، نعذر خوفكم على مناصبكم، على "هيلمانكم" الذي يمكن فقده في حال قمتم بحركات تحررية قوية، لكننا نعلم أنهم في المقابل لا يحبطونكم، يعطونكم بعض الحرية بالتحدث لشعوبكم عن جهود الشجب والاستنكار، وربما تصرحون ببعض المطالبات، لكن لا تتحركوا في سبيل تحقيقها، ومن يتحرك فله الويل والثبور إن عاجلاً أو آجلاً.
نعجب نحن الشعوب لقوانين الأمم المتحدة التي لا تنفذها إسرائيل، وهي بيننا دولة صغيرة واهنة لا تمتلك سوى القوة رغم ما تزخر به من مفكرين وعلماء، القوة فقط هي التي تحرك شدقها وترضي طموحها وتُسكن جموحها، القوة التي لا تستخدمها سوى للآمنين من السكان، القوة التي لا تستحقها في الحقيقة بسبب رعونة الاستخدام وحماقة الحافز وسخافة الأسباب.
هناك في هذا العالم من يناصر هذه الفوضى، يناصرها بقانونه الغابوي، يستخدم حقه المزعوم في هذا المجلس الأممي ليقول لإسرائيل لا تقفي، استمري في قتل الأبرياء، فكلهم يشبهون بعض، لا ترحمي أمّاً ثكلى وأباً مسناً وأبناء خائفين مقفرين يائسين وعجائز غلبهم الزمان فعاشوا البؤس والعسرة، لا ترفّ عيونكها عليهم، تخلصي منهم بكامل قواكِ، دمريهم، فهم ليسوا أبناء عمومة شعبك وليسوا ساميين كما تقولين.
تتشدق أمريكا بأنها رائدة هذه الفوضى تتبعها الست الكبار، لا تحيد هذه الدول السبع عن قانونها، ولو أن بعضها جامل غزة بتصريح عن مساعدات إنسانية، وبالمقابل قام بأفعال غير إنسانية في محاولة للتوازن، فإننا مدركون أهمية كونهم بجانب القائد العظيم أمريكا، أمريكا رائدة الحرية وقائدة العدل في هذا العالم، كما نعتقدها تحرس الغابة بشيء من الحكمة والتروي واتخاذ ما يلزم من قرارات في النزاعات الكبرى لصالح طرفي النزاع، وهي في الحقيقة تخذل العالم بتجاوبها السريع مع الجاني وتنسى الضحية.
أصبح لدينا قناعة تامة، لا لبس فيها، بأن أمريكا هي إسرائيل (أو على الأقل: يحكمها اللوبي الصهيوني)، وإسرائيل هي أمريكا الشرق الأوسط، هي هي لا فرق بينهما، هي تستنزف الدول الصغيرة وتسرق أموالها بعد إثارة الفتن، ولا تفعل شيئاً موازياً لفائدتها، ثم تعطي تلك الأموال لإسرائيل حتى تقتلنا بها.
ماذا ينتظر العرب؟ كيف لهم أن يقبلوا قطع أراضيهم شبراً شبراً؟، كيف لهم عدم مناصرة النساء والأطفال والشيوخ؟، كيف لهم أن يقفوا صامتين كالعجزة؟، هل ستذللون المعوقات للمستعمر للتفرقة بيننا فعلاً؟ قسّم أراضيكم لدويلات ثم أمركم بالنأي بأنفسكم، لا تمكّنوه من ذلك، نعلم الخلافات التي تعصف بيننا كعرب، لكن نرجو نسيانها في الأزمات والحروب، ضعوا قانوناً في الجامعة العربية التي تجمعكم يخدم هذا الغرض، ومكنوها من اتخاذ قرار واحد لا تحيدون عنه على الأقل في الأزمات الكبرى.
أمريكا لا تصلح بعد اليوم أن تكون قائدة لهذا العالم، حاولوا إلغاء الفيتو؛ فمصير الدول تأخذه الدول مجتمعة، أما ما جدوى وجودكم في الأمم المتحدة؟، وأين هو الاتحاد إذا كانت دول بعينها تأخذ القرار، وما عليكم سوى الإذعان له ومسايرته، ولكم في الصراع الحالي مثال؛ فأمريكا لا تدين إسرائيل فيما تفعل بغزة، بينما أغلب الدول الحرة ترى أنها مذنبة، وقرارات الأمم المتحدة غير ملزمة لها، بينما هي ملزمة عليكم، ما هذا القانون الفج والفاضح؟
نرجوكم ألا تصدموا عقولنا، فما عُدنا قادرين أن نفند الخطأ من الصواب، هل ترون ما فعلته اليمن؟ أو ما فعله الحوثيون؟، فجلهم سواء، هل ترون كيف قامت بفعل لا يعبّر عنا؟ فعلوا ذلك وهم يعلمون مآلات القانون الدولي الذي سوف يطبَّق عليهم فقط، أما إسرائيل؛ فمن حقها تمزيق تقرير مجلس حقوق الإنسان الذي يدينها في معركة طوفان الأقصى على منصة مجلس الأمن في الأمم المتحدة أمام مرأى من دول العالم كافة، ولسان حال المتحدث يقول من هؤلاء التافهون الذين يدينون قتل الأطفال والنساء والشيوخ؟، ومن هؤلاء الذين يدينون قصف المدارس والمستشفيات؟
أنا أؤيد اليمن على فعله وأرجو له التوفيق والسداد في عمله البطولي، ليس لأنني مؤيد لهذا الفعل بالذات، لكنه بطولي بحق، والمعاملة بالمثل، نحن بحاجة إلى إيقاف هذا الدم المهدر في بلد أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؛ فكما أن إسرائيل لا تراعي حقن الدماء وتستمرئ في إراقتها له، فإن اليمن يقوم بما يستطيع للحد من هذا السفك غير المبرر أبداً.
أسئلة كثيرة تتبادر إلى أذهان الأحرار، لما لا توسعون أمريكا ضغطاً؟ لما لا تتخلون عن مصالح قصيرة المدى في سبيل مصالح أعلى وتقدير أكبر من العالم الحر؟ ولمَ لا تشكلون عصبة أو أي ما تطلقون عليها تهتم بالفكر ودراسة الفكر فقط، توضع لدحض أفكار أو تأييدها، تطلقون رأياً واحداً تتفق معه نظرة الحكومة، لا نريد رأياً يسوده التفرد يخرج من الجدران الأربعة، أنشئوا مثل هذه اللجان أو المجالس، وخذوا برأي علماء الاجتماع والنفس والدين، هؤلاء مختلفون عن مجالس الشورى أو المجالس الحكومية المختلفة، هؤلاء يهتمون بالأفكار المتداولة في الغرب من اقتصاد، وسياسة، وحتى في مشاركة مشاريع كبرى، يجب أن تتخذوا قراراتكم بالعلم لا بالحلم، وسفاراتكم في الخارج وسيلة جيدة للتنفيذ أيضاً.
هذه ليست خواطر تبثها النفس، بل هي استقراءات داخلية خارجة عن المألوف، وتقع في مهامكم وحقوق شعوبكم؛ فبعد أن مزقت إسرائيل تقرير حقوق الإنسان، أصبحت خارجة عما يحقق لها هذه الحقوق، وبالتالي فإن اليمن قام بما يلزم تجاه هذا الوضع.
الفوضى سيكون هو عنوان المرحلة القادمة، فالأمين العام للأمم المتحدة ممنوع من دخول غزة، هذا عنوان كبير يعني الانفلات وعدم تقدير المجتمع الدولي، هل بعد هذا التعنت ستتغير موازين القوى؟، هل ستتخَلّق قوى عالمية جديدة؟ أم ستتوازن قرارات أمريكا؟ بعد الإطاحة – طبعاً – باللوبي الصهيوني في لجنة إيباك المتوغلة في الجسد الأمريكي، والتي تحكم العالم بالقوة والاعتبارات والأفكار الصهيونية؛ فتهدد الاستقرار على مستوى دول العالم أجمع، أم سيكون للصين الكلمة الفصل؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.