إن عملية طوفان الأقصى فاجأت الأصدقاء والأعداء من حيث التكتيكات العسكرية التي اتبعتها المقاومة الفلسطينية ومن خلال الاختراقات الاستراتيجية التي حققتها في البُعد الاستخباراتي وقدرتها على السيطرة على قواعد عسكرية تحميها منظومات جوية متطورة. وعلى الرغم من أن المقاومة مرّغت أنف إسرائيل في التراب إلا أن محاولات فهم حجم ردة الفعل وحجم التوحش الإسرائيلي ضد قطاع غزة لا تزال عاجزة عن تقديم صورة واضحة وكاملة لهذا الفعل العسكري. وهنا يجب علينا أن نطرح فرضية مفادها أن ردة الفعل هي نتيجة لعقلية استيطانية متجذرة في العقل الجمعي السياسي والعسكري الإسرائيلي والتي لن تبقى ضمن حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة.
جذور استيطانية
إن ما نشهده اليوم من عملية تصفية جماعية لشعب كامل يعيش في قطاع غزة ما هو إلا تجلٍّ للقوانين الحاكمة في القرون الوسطى حيث ساد التوحش وقطاع الطرق وغابت القوانين والرقابة، ولعل أبرز هذه التجليات أنه لا أحد يكترث بحماية المدني الأعزل المعتدى عليه ولا أحد يسعى إلى محاسبة المعتدي المسلح. إن قصف ومحاصرة المشافي بشكل متوحش وقطع المياه والكهرباء والغذاء والطاقة عن أكثر من مليونين شخص بالإضافة إلى القصف العشوائي للأحياء السكنية والملاجئ لا يمكن تفسيره إلا من منظور استيطاني أوسع. ويبرر ادعاءنا هذا ما صرحت به إسرائيل بأنها لن تكتفي بالسيطرة على شمال غزة بل ستتجه نحو الجنوب؛ حيث نشرت العديد من المنشورات باللغة العربية التي طالبت سكان غزة بالتوجه إليه، وها هي اليوم تقرر بأن عمليتها العسكرية سوف تتوسع إلى الجنوب وذلك لإكمال خطة التهجير الجماعية التي اتبعتها إسرائيل.
أحلام دينية للتوسع
إن من أهم التصريحات التي ألقى بها نتنياهو خلال 43 يوماً من الحرب على غزة، كان تصريحه أمام الكنيست الإسرائيلي حين وعد بتحقيق "نبوءة أشعياء". هذه النبوءة هي جزء من سفر أشعياء المكون من 66 فصلاً في الكتاب المقدس، حيث تتحدث هذه النبوءة عن قيام دولة إسرائيل الكبرى بين نهري النيل والفرات وإحداث دمار هائل في كل من العراق ودمشق واليمن ومصر والأردن.
استحضار هذه النبوءة في الخطاب والوعي السياسي الإسرائيلي والأمريكي ما هو إلا محاولة إحياء حقبة الحروب الصليبية التي دارت بين القرن الحادي عشر والقرن الثالث عشر الميلادي. بدأت هذه الحرب عندما أطلق البابا أوربان الثاني الحملات الصليبية في مجمع كليرمون عام 1095، ودعا أوربان المسيحيين إلى حمل السلاح ضد المسلمين وتحرير الأرض المقدسة. وقوبل خطابه بحماس كبير، وتطوع آلاف الأشخاص من جميع أنحاء أوروبا للانضمام إلى الحملة الصليبية.
عند مراجعة الموقف العربي من الحرب على غزة، سنجد بأن الشعوب العربية تسبق حكوماتها في المواقف الواضحة الداعمة للقضية الفلسطينية؛ حيث تدرك هذه الشعوب بأن ما يدور اليوم في فلسطين المحتلة وقطاع غزة هو حلقة ضمن سلسلة من الحلقات نحو إسرائيل الكبرى. كما أن أكثر الدول التي ستتضرر من هذا الصراع ستكون مصر والأردن، وذلك لأن إسرائيل تسعى في المقام الأول إلى تهجير الفلسطينيين إلى هاتين الدولتين لتبدأ في مرحلة لاحقة عدواناً آخر على الأردن ومصر كذلك.
يعي الشعب الأردني خطورة الموقف في غزة، ولذلك فهم يخرجون في مظاهرات مستمرة لدعم الشعب الفلسطيني ضد هذا العدوان الغاشم. على الرغم من أن الأردن طلب من وزارة الخارجية الإسرائيلية إبلاغ سفيرها بعدم العودة إلى المملكة إلا أن الحكومة الأردنية منعت اعتصاماً مفتوحاً كان مقرراً يوم الخميس الماضي وسط العاصمة عمان للمطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
ودعا للاعتصام ما يزيد على 300 شخصية أردنية، بينهم وزراء سابقون وقادة متقاعدون في الجيش العربي، ونقباء وأدباء وإعلاميون ونشطاء مجتمع مدني.
قرار المنع هذا جاء بعد يوم واحد من استهداف الطائرات الإسرائيلية للمستشفى الميداني الأردني في قطاع غزة مما تسبب بجرح 7 أشخاص من الفرق الطبية الأردنية. وهذا ما يؤكد مرة أخرى أن دول المحيط هي المحطة الثانية لإسرائيل ولذلك كان لا بد من دعم الاعتصام والسماح له بالتظاهر على الحدود الأردنية-الفلسطينية وأمام السفارة الأمريكية الأكثر دعماً لإسرائيل كذلك.
وأما بالنسبة إلى مصر، فإن سلطات الاحتلال تحاول اقتطاع جزء كبير من صحراء سيناء لتقوم بتخصيصها للمهجرين من قطاع غزة. بالإضافة إلى ذلك فلا يجب أن ننسى أن الحرب قد توسعت إلى مصر كذلك، حيث تعددت الضربات الإسرائيلية ضد مراكز مراقبة مصرية مما تسبب بعدد من الشهداء المصريين، وبررت إسرائيل هذه الهجمات بأنها جاءت نتيجة الخطأ.
ختاماً، كل السلوك العسكري وعمليات الإبادة الجماعية والتهجير القسري تدخل ضمن عقلية استيطانية إسرائيلية متجذرة في التاريخ الإسرائيلي ومبنية على مبررات دينية مزيفة. لا ينبغي ولو للحظة واحدة أن نعتقد بأنّ هذا التوحش سوف ينحصر في قطاع غزة؛ إذ إن التاريخ وقراءة السياسة تدفعانا إلى الاستنتاج العقلاني والمنطقي بأن الحرب ستتوسع إلى دول الجوار في المستقبل، ولذلك فإن هذا الموقف العربي الرسمي مطالب بدعم الشعب الفلسطيني ودعم مواقف شعوبها ضد الاحتلال وضد توحشه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.