في الفاتح من نوفمبر من كل سنة تحتفل الجزائر بذكرى ثورتها المباركة على المحتل الفرنسي، والتي اندلعت نيرانها عام 1954 بعد 124 سنة من الاحتلال، واستمرت سبع سنوات ونصف السنة من البطولات والتضحيات كللت بتحرير الأرض وطرد المستعمر، وتزامنت الذكرى هذه السنة مع انبعاث نار لطوفان ثورة من تحت رماد ظن الكثير أنه منطفئ وأمره منتهٍ، فألهبت روح المقاومة وأعادت فرض القضية الفلسطينية كقضية أولى لا يمكن لأي قوة تجاوزها أو دفنها.
وإذا نظرنا إلى رد الفعل الوحشي لحلف الشر الذي فاق حتى كتابة هذه الأسطر الشهر من القتل والتدمير والتجويع نجده منسجماً مع طبيعتهم الإجرامية ونظرتهم العنصرية المتعالية التي تدرجنا عموماً والفلسطينيين خصوصاً خارج مصاف البشر! وبنفس التحليل نجد أنه موقف سلطات القمع والاستبداد (وخاصة دول الطوق) طبيعي أيضاً، وينسجم مع جبنهم المزمن ورغبتهم الواحدة والوحيدة، وهي الحفاظ على قصورهم وإرضاء أسيادهم، لكن لغير المفهوم إلى حد ما موقف أشباه النخب من أنصاف المتعلمين والمرتزقة من الإعلاميين، يضاف إليهم متفيهقو أنظمة الظلم الذين يدعمون بقوة الرواية الأمريكو-صهيونية ويرددون طروحاتها المضلة الظالمة، ويعرضون خدماتهم كمَعاول هدم محاولين كسر الحاضنة الشعبية والتعاطف الجماهيري مع المقاومة بالتركيز على لومها وتخطيئها وتحميلها مسؤولية جرائم الحرب التي يقترفها المحتل بتمويل ودعم وحماية الغرب الحاقد.
وفي تقديري أن طروحات هذا الصنف الأخير هي الأخطر؛ لأنها تتنكر في لباس الوعظ والإرشاد وتلبس لبوس الإنسانية والتعاطف البشري وتعمل بخبث على تشويه المقاومة ومرجعيتها.
وإيماناً منا بوحدة النواميس التي تحكم البشر وطبائعهم وتحدد مسارات الحركات الاجتماعية ومآلاتها نطرح مقارنة بين المقاومة الفلسطينية والمقاومة الجزائرية التي لم تهدأ على مدار 132 سنة من تواجد المحتل، ختمتها بثورة صنفت مع أعظم الثورات التي عرفها العالم الحديث:
طبيعة الاحتلال: إذا كانت الطبيعة الاستيطانية للمحتل الصهيوني لفلسطين معلومة لدى الجميع، وأنه قام تحت مظلة "أرض الميعاد" المزعومة، فقلة مَن تعلم أن الاحتلال الفرنسي للجزائر استيطاني أيضاً تأسس على محاولة استبدال الشعب الجزائري بخليط من أجناس أوروبا، فقام من أول يوم بطرد الجزائريين من أراضيهم ومنحها للمستوطنين الأوروبيين الذين استقدمهم معه، وكسر النسيج الاجتماعي والتماسك الأسري بتفكيك النظام القبلي وتغيير الألقاب وخلط الأنساب، وحرمان الجزائريين من التعليم (لم تتعلم 5 أجيال متعاقبة!) لتسهيل السيطرة والإخضاع، وفرض لغة المحتل ومحاولة الإجهاز على قيم ومعتقدات الشعب الجزائري، قمع ومحاولة إبادة الشعب الجزائري بحملات لم يعرف لها التاريخ الحديث مثيلاً والمحزن أنها لم تنَل حظها من التغطية الإعلامية المناسبة حينها ولا الاهتمام الأكاديمي الكافي لتعريتها وتأريخها حالياً.. وهكذا نجد تطابقاً في طبيعة الاحتلال الفرنسي والصهيوني فكلاهما أقام مشروعه على استبدال الشعب صاحب الأرض والتاريخ بخليط من المهمَّشين من شعوب مختلفة من أوروبا عموماً، ومن بعض الدول الأخرى وباسم اليهودية في فلسطين تحديداً.
تجريم المقاومة: بعد الحرب الباردة واستقرار الوضع للنظام الغربي الاستعماري وهيمنته روّج لمصطلحات جديدة وشوَّه مفاهيم كثيرة مثل وصفه للمقاومة الفلسيطنية للمحتل بالهمجية، وصنفها بالخارجة عن الشرعية ووسمها بالإرهاب، فيكفي أنهم صنفوا حماس وغيرها من فصائل المقاومة على قوائم الإرهاب؛ لأنها لم تخضع وتستسلم للمحتل ورفضت خيانة قضيتها كجماعة "سلطة أوسلو" المتحضرة! وبالمقارنة نجد أن نفس الشيء تعرَّض له مجاهدو ثورة التحرير؛ حيث استعمل المحتل الفرنسي مدعوماً بالغرب الصليبي مصطلح الإرهاب والإرهابيين والهمجية والبربرية في وصفه للعمل الجهادي لثوار الجزائر، ومن المصطلحات الشهيرة التي كانوا يستعملونها لوصف المجاهدين مصطلح "الفلاقة"، والتي تعني مما تعنيه محلياً المجرم قاطع الطريق المسلح.
البعد العقدي للاحتلال: من أهم ما يوظف ويرتكز عليه أي مشروع استيطاني البعد الديني، فكما سعى ويسعى الاحتلال الصهيوني لتهويد فلسطين وها هو قد أعلن وشرّع ما سمَّاه "يهودية الدولة"، وأصلاً هو يشترط على من يستقدمهم لإعمار المستوطنات باسم "أرض الميعاد" أن يكونوا على الديانة اليهودية لا غير، في المقابل نجد أن الاحتلال الفرنسي عمل أيضاً على مسخ هوية الشعب الجزائري، واجتهد في إبعاده عن دينه ومعتقداته، واجتهد في محو كل ما يدل على ذلك، فحوَّل المساجد إلى كنائس، وضيَّق على عقائد المجتمع وشعائره الدينية إلى حد منعه للتعليم عموماً، وللديني خصوصاً، كما منع بناء المساجد، وكان من شروط اختياره للمعمرين الذين يستقدمهم ضرورة أن يكونوا مسيحيين "بيض أو يهود".
منطق المقاومة: منطق المقاومة وفلسفتها في التحرك لغز محير لمن لا يدرك طبيعتها ومنطلقاتها، فالكثير ولو بحسن نية يتساءل كيف للمجاهدين في غزة أن يبادروا بمهاجمة العدو وهم يدركون قسوة رده وقوة الدعم الذي يتلقاه من حليفه الغربي؟ ولماذا تسعى المقاومة لفتح جبهة قتال في ظل موازين قوى مختلة تميل الكفة فيها لصالح العدو وحليفه الغربي (مادياً، عسكرياً، إعلامياً، وحتى سياسياً..)؟ وتزداد حيرتهم أمام الدمار الكبير للمباني والبنى التحتية والعدد الكبير للشهداء واليتامى والمشردين، ويصل اليأس بالمؤدلجين منهم إلى التعاطف مع المستوطنين اليهود وإنكار إنجازات المقاومة واستنكار استهدافهم لأنهم مدنيون.. نقول لهؤلاء وغيرهم لعلمكم فإن مجاهدي ثورة تحرير الجزائر ساروا على نفس الدرب، وانطلقوا في ثورتهم يحاربون فرنسا، ومن خلالها الحلف الأطلسي:
1- بمجموعة من الثوار أغلبيتهم الساحقة أميون لا يتقنون فنون القتال ولا يملكون أسلحة ولا يحسنون استعمالها أصلاً، وفوق هذا فهم فلاحون بسطاء يعيشون الفقر المدقع ولا يعرفون شيئاً عن حقوق الإنسان ولا معاهدات جنيف وما شابه من بروباغاندا التضليل والكذب الغربي، لكن إيمانهم بالحرية ثابت وقوتهم يستمدونها من قناعتهم الراسخة "أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة".
2- وفي وجود تيار قوي من المستلبين والمؤدلجين من بني جلدتنا (يقابلون في فلسطين تيار 'جماعة أسلو' ودعاة شعار 'الكفاح السلمي!) كانوا يدعُون إلى فرنسة الشعب الجزائري ويعرف خلفهم اليوم بالتيار الفرنكوتغريبي أو بدعاة الإدماج، فكانوا يساعدون العدو في محاولته كسر الحاضنة الشعبية للثورة، ولليوم يبذلون جهدهم 'كطابور خامس'، لكي لا يكتمل استقلال الجزائر.
3- وبكلفة غالية لثورتهم على العدو؛ حيث دفع الشعب الجزائري في سبيل حريته مليوناً ونصف المليون من الشهداء بمعدل 550 شهيداً يومياً خلال سنوات ثورته بدون بواكٍ، وفي ظل تعتيم إعلامي كلي، مقابل خسارة يراها المثبطون ضئيلة قُدرت بحوالي 25 ألف قتيل من الفرنسيين، فضريبة الحرية والكرامة عالية، ولا نصر دون تضحيات، أما أحلام الاستقلال الكاذب عبر جلسات الصالونات والفنادق المكيفة فلا يُؤمن ويُبشر به إلا الخونة والجبناء الذين باعوا أرضنا.
4- وبفكرة واضحة لا لبس فيها ملخصها أن كل مَن دخل أرضنا باسم المحتل مدنياً أو عسكرياً فهو هدف مشروع، وهذا ما طُبق على المستوطنين في ظل الاحتلال الفرنسي، ويبقى من الحكمة تطبيقه على المستوطنين في فلسطين، وليصمت المغفلون المؤدلجون الذين يشعرون بارتفاع مفرط لمعدل الأنسنة لديهم.
5- وبسياسة الأرض المحروقة التي كان يمارسها العدو، وخاصة بعد كل عملية يقوم بها المجاهدون، فكانوا يقبلون المنطقة على ساكنيها، ومن نجا منهم يُحرق مع ممتلكاته أو ينقل إلى السجون ومعتقلات التعذيب والقتل، لا فرق إن كان طفلاً كان أو امرأة أو شيخاً، ومهما فعل العدو الصهيوني اليوم فلن يصل إلى ما فعله دعاة التحضر في الجزائر بالأمس، قد يشبهه في المبدأ، لكن التغطية الإعلامية اليوم لا تسمح بتكراره.
6- أخيراً: نقول لمن أراد فهم ما يحدث في غزة وإدراك مآلها عليك بالعودة إلى تجربة الثورة الجزائرية، ففي تفاصيلها تجد الإجابة الشافية والضوء الهادي المنير في النفق المظلم الذي يعمد الغرب المنافق لإبقائنا داخله، فمن راوده الشك بالنصر وحتمية خروج المحتل من الإخوة أو الأعداء، ففي التجربة الجزائرية أحسن مثال، فمن كان يتصور أن يندحر الفرنسيون بعد 132 سنة من الاستيطان، ومن كان يشكو قسوة الرد، فليذكر إبادة الجزائريين بحرق وقنبلة القرى والمداشر، ومن استسلم للحصار وقوة العدو فليذكر إحاطة الجزائريين بأسلاك شائكة مكهربة ومحصنة بحقول الألغام في المحتشدات أو عبر الحدود مع دول الجوار، ومن آلمه ظلم البعيد، وخيانة القريب، فليذكر أن الجزائر في ثورتها كانت لوحدها في أغلب أوقاتها في مواجهة التحالف الغربي الصليبي.
ونقول لإخواننا في المقاومة إن مسار ثورة الجزائر ومآلها مدعاة لطمأنتكم وثقتكم وتفاؤلكم بثورتكم مساراً ومآلاً، وإن من ينطلق من عقيدة "الله أكبر" لن يموت، ولن يتنازل عن أرضه ولا يملك أن يفعل ذلك، وفلاحكم في صبركم وحسن تخطيطكم الذي أبهرتمونا به.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.