زُرع الاحتلال الإسرائيلي في قلب عالمنا العربي لتمزيقه جغرافياً، وكسر الصلة بين حاضرنا وماضينا ومستقبلنا، إذ بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية ظل الوعي العربي يتعايش مع الحاضر متعجلاً رؤية المستقبل الذي سيتم فيه التحرر الكامل من حكم الاستعمار الأوروبي وتحطيم الحدود المصطنعة التي أوجدها بين البلدان العربية، من أجل بناء مستقبل عربي جديد يستعيد فيه العرب وأمة الشرق دورهم الحضاري الذي حطمته قرون من الاستعمار والاستغلال.
ثم جاءت نكبة 1948 كزلزال، مزق الصلة بين الحاضر والماضي والمستقبل، فذهب الوعي العربي في رحلة تيه بين القلق والخطر وعدم اليقين. فكان لا بد من ظهور من يأتي وينقذ ذلك الوعي العربي من مصائره، فأتى من لديه فكر وكلمات يجسدان إرادة الدفاع عما هو مهدد بالانقراض في حياتنا كعرب، جاء من يحيي الكفاح لترميم الماضي ومقاومة الحاضر وبناء المستقبل.
لم يكن ذلك، عن طريق السلاح بل بالقلم، قلم رجل واحد اسمه "غسان كنفاني"، استطاع أن يروض الكلمات لتقف في صفنا نحن التائهين لتكون عملاً مقاوماً.
عاش غسان كنفاني طفولته في يافا، وفي نكبة 1948 أجبر على اللجوء مع عائلته إلى المخيمات المؤقتة في لبنان، حيث خرجوا من فلسطين سيراً على الأقدام عندما كان يبلغ من العمر 12 عاماً فقط، بعد ذلك انتقل غسان إلى العاصمة دمشق ليعمل مدرساً في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، ومنها انتقل إلى الكويت ثم عاد ليستقر في بيروت عام 1960 ويعمل في صحيفة "الحرية" التابعة لحركة القوميين العرب التي كانت النواة الأساسية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
لا تمت قبل أن تكون نداً.. لا تمت
لم يكن غسان كنفاني الذي وُلد بعكا في التاسع من أبريل/نيسان عام 1936، مجرد روائي وصحفي فقط، بل كان مقاوماً ومناضلاً سياسياً كرس حياته من أجل القضية الفلسطينية التي أصبحت بصلة العرب وكل باحثاً عن الحرية.
إذ يرى الأكاديمي الفلسطيني إدوارد سعيد أن من أفضل الأمثلة على "الكتابة المقاومة" رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، إذ يعتقد أنها كانت من أبرع الروايات القصيرة في الأدب الحديث، فهو ينظر إليها من خلال قدرتها على تغيير الواقع بالعاطفة، فقد تمكنت من إلغاء المسافة بين اللغة والواقع.
وهذا ليس كلاماً رومانسياً، فبالنظر إلى أي عمل فني سنجد له تأثيراً شعورياً على الإنسان، وهو ما يمكن أن نسميه بعاطفة الفن، التي يصبح لها وجود مادي قادر على التأثير والتغيير. وهذا ما قام به "غسان كنفاني" في كتابته، أولد "عاطفة المقاومة" في الوعي العربي من رحم التيه واليأس، فنراه يقول على سبيل المثال في كتابه (أرض البرتقال الحزين): "لا تمت قبل أن تكون نداً.. لا تمت".
هذه الكلمات البسيطة ربما يرى البعض أنها لا تصلح للاستهلاك في عالم الواقع، لكنها ربما ستكون مناسبة لأن تطبع باللون الأحمر على ظهر قميص فضفاض مع بنطال جينز من ماركة من بلاد العام سام، فحينها تصبح ذات قيمة تسويقية في عالم لا يعرف غير المال والتجارة والمزيد من العمل، فهذا ما يؤمن به البشر في واقعنا اليوم ويسير به عالمنا.
حتى إن كثيراً منا أبناء الجنوب أبهرته أضواء الحداثة الآتية من الشمال، فظن أنه يمكن أن تحل قضايانا ونسترد حقوقنا بعد قرون من الاستعمار، بل حتى ننسى دماء عائلتنا مع الزمن والتجارة، والمؤتمرات، وهذا ليس مجازاً، فقطار التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي الذي أوقفته المقاومة الفلسطينية في يوم السابع من أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، كان قائماً على ذلك.
وأي نوع من المحاربين يريدون؟ محاربين يلبسون المعاطف البيضاء ويردون على الجرائم اليهودية بابتسامات عذاب؟ أم يريدوننا أن نحارب بمحاضرات جلسات جامعة الدول العربية؟
غسان كنفاني، أرض البرتقال الحزين
فالقائمون على أنظمتنا العربية يظنون أنهم يملكون من الذكاء الكثير، فلم المقاومة؟! إسرائيل لديها التكنولوجيا والأمن ونحن لدينا المال، فليعم السلام إذن! وتصبح فلسطين والفلسطينيون من الماضي، بل لنحول القضية الفلسطينية "لفلكلور" نسرد له الحكايت عن السكان الأصليون الذين كانوا يعيشون في القدس قبل أن يأتي الرجل الأبيض مجدداً ليستعمر ويحدّث، ونصنع أفلاماً ومحميات ومتاحف تحكي عن المذابح بحق الفلسطينيين بأسى وحزن، مثل سكان أمريكا الأصليين، ولنكمل سهرتنا في نوادي حيفا الليلية.
وقد تمت محاولة تثبيت هذا الاقتناع والثقافة في وعي شعوبنا لكنها أبت، بينما نجح في أنظمتنا العربية منذ منتصف السبعينيات، حين أصبحت أنظمتنا العربية أسيرة لمصالح فئوية وعائلية معينة، ما أدى إلى فقدان شرعيتها الوطنية وانزلاقها إلى مستنقع الشرعية الأمريكية، التي تُمنح من خلال الإدارة الأمريكية لحكوماتنا العربية التي تنفذ توجيهاتها بشكل كامل، والتي غالباً ما تكون متوافقة مع مصالح الاحتلال الإسرائيلي.
إضافة إلى ظهور قوى سياسية كانت في البداية تعارض الأنظمة على أسس مبدئية، لكنها لاحقاً استسلمت لصراع السلطة، مما أدى إلى انزلاقها أيضاً إلى مستنقع الشرعية الأمريكية. بدأت هذه القوى المعارضة بتشكيل مواقفها ومطالبها ورغباتها وفقاً لما يُعتبر مقبولاً من قبل الولايات المتحدة، وبالتالي ما هو مقبول إسرائيلياً. وهكذا تم تطوير ثقافة "العم سام" والعدول عن المقاومة.
هذه الثقافة لا تقتصر على معارضة المقاومة فقط، بل تتجاوز حدود الكرامة الإنسانية. فهي، في الواقع، ليست بعيدة عن نموذج "السيد والعبد"، حيث تقوم على فرض أن هناك "سيداً" في هذا العالم لديه السلطة لمنح الشرعية لأحد الأمور وحرمان آخر، سواء فيما يتعلق بالحكم أو المعارضة.
جاءت كتابات كنفاني لتظل تؤجج عاطفة المقاومة في وعي الشعوب العربية، فظلت تزرع في وعي أجيال عربية مقولة تؤكد أن استعادة الحقوق لا تأتي إلا بمقاومة المغتصب لا باسترضاء، فصنع حيزاً ثقافياً عربياً ثورياً حتى وإن ظل على الهامش، لكنه حي ينتظر أنصاف الفرص ليعيد البوصلة.
لقد سار غسان كنفاني في طريق المقاومة الكاملة، واستطاع أن يلغي المسافات بين اللغة والواقع، فطوع الكتابة لتصبح عملاً مقاوماً تغير من حياة القرّاء، فلا يستسلمون للواقع، ومن هنا ندرك أهمية وكيف تصنع "عاطفة المقاومة" التي تعبر عن الرغبة في التغيير الكامل، التغيير بواسطة الكلمة والتغيير بواسطة المقال، والتغيير بواسطة الرواية. ولذلك كان على غسان كنفاني أن يواجه مصير الاغتيال الذي وقّعت عليه بنفسها رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير.
لقد حاولت الأنظمة نشر ثقافة الخنوع في البلدان العربية منذ مطلع القرن الجديد، فتزايد عدد وسائل الإعلام التابعة وعدد مراكز الأبحاث للحكومات، وعدد المؤتمرات التي تعمل على نشر محاور لتلك الثقافة، لكن مع ما تفعله المقاومة ومع جريان العاطفة في الشوارع العربية، فإنه من الواضح أن كل هذه الجهود والاستثمارات ذهبت سدى، فالوعي العربي ما زال ملكاً لعاطفة المقاومة، عاطفة غسان كنفاني وعاطفة كل مقاوم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.