ربما لم يتفاجأ كثيرون، عندما سمحت الولايات المتحدة الأمريكيّة لنفسها بالتدخل الآثم في شؤون كثير من دول العالم حتى تلك القويّة منها بداية القرن الماضي، تحت حجج كثيرة واهيّة، فما بالك اليوم بالتدخل العسكري والعقوبات الاقتصاديّة وغيرها من أشكال وأدوات التدخلات العنيفة التي أخذت طابعاً إمبريالياً ظالماً، يجافي كل المبادئ والقوانين التي سطرتها وصاغتها عبر تاريخها أي منذ تشكلها إلى غاية يومنا هذا.
قد يفهم بعض ردود أفعالها تجاه البعض من الدول التي حطمت كبرياءها واعتدت عليها بشكل مباشر، لكننا نعيب حجم ردة الفعل السّافرة التي فاقت حدود الجنون في كل الحالات والحالة اليابانيّة عام 1945 من خير الشواهد الناطقة.
لكن الأمر أخذ منحى أعنف حين بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تروج وتبرر لعنفها وهيمنتها تجاه دول ومنظمات وكيانات وحتى أفراد تعرضوا إلى مختلف صنوف القمع والترويع والتهديد، عن طريق تدخلات قيصريّة وقسريّة في مصالح بلاد أخرى وشؤونها الداخليّة وتحديد مصائر شعبها بما يخدم نظرة المكابرة والغطرسة الأمريكيّة التي بدأت تزداد يوماً بعد يوم منذ أن خرجت تلك الدولة منتشيّة بالانتصار من الحرب العالميّة الثانيّة التي أرخت لميلاد إمبراطورية جديدة تحكم العالم بالحديد والنار تكون فيه الحاكم والمهيمن الوحيد.
ولو عدنا قليلاً إلى الوراء خلال وبعد الحرب العالمية الأولى بدأت بالفعل ملامح التغيّر في العلاقات الدوليّة؛ حيث بدأت تتشكل غالبيّة سمات العلاقات الدوليّة المعاصرة، وظهور اتساقاً مع ذلك قوى فكريّة وماديّة قويّة حديثة استطاعت إزاحة القوى الكلاسيكيّة بالمفهوم الإمبراطوري والملكي بشكل خاص، وهنا بدأت تتشكل خارطة المنافسة التي أخذت طابعاً مؤدلجاً بالدرجة الأولى بين المتشكلات الثلاث ونقصد بها الاشتراكية وموطنها العالم الشرقي -الاتحاد السوفييتي- والدكتاتوريّة برؤوسها الثلاثة (العسكريّة في اليابان والفاشيّة في إيطاليا والنّازيّة في ألمانيا) والديمقراطيّة الليبراليّة وموطنها الولايات المتحدة الأمريكيّة التي أرادت سحل منافسيها والتقبّض على العالم بأسره وتوجيهه كما أرادت هي دون منافسة أو مقاسمة.
وربما في ظل تلك الظروف المشحونة، والتي كانت تميز عالم ما بين الحربين، كانت أمريكا تحضّر نفسها بشكل جدي للخروج الأبدي من عزلتها التي لم تخدمها وأن تعيد حساباتها مجدداً.
كان العالم في ذلك الوقت يعيش حالة من التصدع والانقسامات الكبيرة التي خدمت واشنطن ويسرت لها البروز على السّاحة الدوليّة بشكل قوي، ففتح لها باب الهيمنة على مصراعيه لتبدأ في مشروعها الإمبريالي، في خيانة ومخالفة لكل النصوص والمبادئ التي صاغتها غداة تشكلها وتأسيسها والتي أخذت طابعاً سلميّاً مسالماً تجاه المجتمع الدولي برمته، فغرور القوة وشهوة السيطرة جعلتها تكفر بكل مبادئها من أجل الهيمنة على العالم بالقوّة الماديّة والنّاعمة على حد سواء، مهما كان الثمن.
لقد أسدت الظروف العالميّة وقتها صنيعاً لأمريكا في تلك الفترة الحساسة بين الشعوب والأمم، فكل ما تشكّل من ديكتاتوريات قد تحطم تحت أسوارها من دون جهد كبير منها، فإذ بألمانيا النّازيّة تسقط سقوطاً مدويّاً، لتتبعها حليفتها إيطاليا الفاشية التي انهار مجدها سريعاً بإمضاء وثيقة الاستسلام، ولم تصمد آخر قوى الديكتاتوريات المجسدة في اليابان لتقاوم المد الغربي لتسقط مباشرة بعد قنبلتي هيروشيما وناجازاكي شهر أغسطس/آب من عام 1945 في مشهد سريالي بثّ الرّعب في قلوب العالم بأسره، ليعلن عن بدء نظام قائم على العنجهيّة الأمريكيّة في التعامل مع الدول، لا يعرف غير القوة المفرطة.
ولم يسلم المدنيون من تلك التصرفات التي ضربت عرض الحائط كل القيم الغربية المعولمة، فبدأت عسكرة واستقطاب العالم بشكل شديد بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا في محاولة كل منهما إخضاع شعوب الجنوب ودولها لسطوة القوة الجديدة في العالم، فرأينا لا صوت يعلو فوق صوت المذابح في فيتنام وأفغانستان. وتجب الإشارة إلى أن الاتحاد السوفييتي رغم كونه نظرياً آنذاك قوة موازيّة لأمريكا، إلا أنه من النّاحيّة الفعليّة كانت هناك الكثير من الفروقات البيّنة على جميع المستويات، سواء العسكريّة أو الاقتصاديّة أو التكنولوجيّة أو حتى من حيث عدد الحلفاء التابعين.
حماية أمن الاحتلال الإسرائيلي.. حماية الهيمنة
واليوم ما نراه من عدوان وهمجية بدعم أمريكي على غزة ليس إلا استمرار لمسلسل الهيمنة، فمسألة حماية أمن الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، يعتبر ركيزة أساسية في الفكر الاستراتيجي الأمريكي، ولا يجوز القفز عليه مهما تغيّرت الظروف ومعها الإدارات الحاكمة للبيت الأبيض، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية تولي جميع تلك الإدارات أهميّة بالغة لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي، لذلك من المفهوم توفير واشنطن لكافة أنواع الدّعم المادي والمعنوي للحليفة التاريخيّة في المنطقة، في مواجهة خصومها.
رغم ذلك ما زالت غزة صامدة في حرب غير متكافئة على الإطلاق، صامدة رغم الاعتداءات الوحشية على أراضيها وشعبها الأعزل، من طرف آلة الاحتلال الإسرائيلي المدعومة بشكل كامل من الغرب. إذ يتدفق المدد الأمريكي لجيش الاحتلال في ظل صمت مطبق وتماهٍ شديد من المجتمع الدولي وضميره الذي مات ودفنه منذ زمن.
إن ما يحدث في ميدان غزة من استباحة لدم وحق الشعب الفلسطيني، يبرهن على أن هذه حرب إخضاع، لا تراها أمريكا إلا تهديداً لهيمنتها المهزوزة، لذا ترفع شعاراً مجدداً من غزة "لا صوت يعلو فوق صوت المذابح"، في خيانة لكل مبادئها، فلا مقارنة بين نصوص دساتيرها الأقرب للمثاليّة وأفعالها الأقرب للشيطانيّة.
إن الولايات المتحدة الأمريكيّة التي صنعت النظام الدولي الجديد وصاغت كل مرتكزاته وبنت كل أدواته، تحاول هي وحلفاؤها شرعنة أفعالهم الإمبرياليّة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.