دع عنك الحصار، وأخبرني عن دكّ القنابل الفوسفورية والصواريخ والقنابل الغازية لسماء قطاع غزة المُلتهبة، والقصف الصاروخي المتواصل والبيوت المدمرة والأحياء العالقة تحت الأنقاض، وجثث أولئك الشهداء المُتناثرة بأرجاء قطاع غزة. ليلة السبت الماضية والتي بعدها كانت كالجحيم على أهالي غزة. حجم الدمار كان مخيفاً، وكذلك القصف الصاروخي كان مُرعباً. ومنظر أشلاء الأطفال وحده كافٍ لاختصار جريمة الإبادة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي. ونتنياهو أكد للعالم في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم السبت دوافع الحرب التي وصفها بأنها حرب الإنسانية ضد البربرية، وقد صدق.
فالقصف المتواصل على غزة تأكيد على همجية الاحتلال الإسرائيلي، واستهداف المدنيين وتدمير منازلهم وقصف المستشفيات بالقنابل الفوسفورية سلوك أظهر بربرية نتنياهو في هذه الحرب، فهي حرب ضد الإنسانية كما أخبرنا بذلك، ولا يعتبر الفلسطينيين في دائرة الإنسانية، لذلك نشاهد بربرية الاحتلال الإسرائيلي الذي يحاول نزع الإنسانية عن الفلسطينيين وإبادتهم بشكل جماعي. ومنذ بدء الحرب شاهدنا جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الإنسانية لكي يثبت للمجتمع الدولي بأن حربه بربرية وغير إنسانية.
حرب الإنسانية ضد البربرية لها شركاء، ونتنياهو لا يخوض هذه المعركة وحده، بل المجتمع الدولي متضامن معه. فكيف يمكن تفسير الموافقة على مشروع الأردن لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لغزة بأغلبية 120 صوتاً من بينها فرنسا الداعمة لحرب نتنياهو، بينما امتنعت تونس والعراق عن التصويت على القرار لأسباب تراها منطقية؟ إذاً لا قيمة لهذا القرار، والمسؤولية مازات تقع على عاتق دول النقض الخمسة بمجلس الأمن، بعدما فشلت في التصويت على ثلاثة مشاريع كان من الممكن أن توقف هذه المجزرة. 8 آلاف شهيد أغلبهم من الأطفال والسيدات والمسنين، شاركت الدول الخمس بقتلهم.
ازدواجية المعايير الغربية
ما نشاهده في هذه الأيام من أحداث وقتل ودمار جاء نتيجة للمعايير السياسية الغربية الإمبريالية المتناقضة؛ فالدول التي من المفترض أن تحافظ على الأمن والسلم الدوليين باتت هي من تشجع سياسة الحرب والدمار والقتل ولم تعد الدبلوماسية في سياق هذه الأحداث، وكل شيء يتجه نحو تصعيد الحرب والقتل. حتى المنظمات الدولية لا تقوم بواجباتها الإنسانية، وهذا يؤكد عدم استقلال هذه المنظمات عن السياسة الدولية والموقف الدولي المساند لإسرائيل والذي يبرر لها هذه الحرب تحت مصطلح الدفاع عن النفس. وكل ما نسمعه في هذه الأحداث التأكيد على الكوارث الإنسانية في غزة، وضرورة فتح ممرات إنسانية مجرد قول وليس فعلاً. وغوتيريش لعب هذا الدور بامتياز، فكل مساهماته في هذه الحرب هي التغريد والسفر إلى معبر رفح، هذا من جهة، والتحريض على حماس من جهة أخرى، لذا يمارس سياسة التعاطف المزدوجة، ويواسي النيباليين باتهام حماس، وهو بهذا يعتقد أن ضميره الإنساني بات متعاطفاً مع جميع الأطراف، فهو يكتب بمنصة إكس أكثر مما يقترح ويعمل، ورحلاته أكثر من حضوره لجلسات الأمم المتحدة، فهو كالصوت السياسي الذي ترفرف حوله أرواح شهداء الحرب والقصف والقتل والمجازر ولا ينقذهم.
التاريخ توقّف عند السابع من الشهر الجاري، والدول الغربية تساند الاحتلال الإسرائيلي. لقد أفقدتهم عملية السابع من هذا الشهر صوابهم، ولم يعودوا يفكرون بأبسط مقومات العقل والتفكير. هي ظاهرة عامة أصابت الدول الغربية، وأسقطت الأقنعة عن السياسيين والإعلاميين والمراقبين السياسيين ومن كانوا يدّعون يوماً أنهم من اليسار، فباتت آراؤهم لا تختلف عمن هم في أقصى اليمين المتطرف، ولا فرق بينهم وبين النازيين، خصوصاً في هذه الحرب. والمؤسسات الدولية التي كانت تتحدث عن العدالة والحق صارت في الاتجاه ذاته. والمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يقول بأن هجمات السابع من أكتوبر سببت معاناة كبيرة للمدنيين في إسرائيل. صاحب هذه الكلمة من المفترض أن يقوم بدعوة ضد نتنياهو على جرائم الإبادة التي تختص بها المحكمة، ومن المفترض أن يسعى المدعي العام لعرضها أمام المحكمة المختصة بالجنايات الدولية. المدعي العام يرى معاناة السابع من هذا الشهر ولم يستطع رؤية معاناة سكان غزة وعدد الشهداء الذي تجاوز 8 آلاف شهيد و20 ألف جريح، هو لم يرَ معاناة الفلسطينيين نتيجة الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من 75 عاماً وأكثر من 50 عاماً بعد حرب 67.
الشعوب الغربية والنزعة الإنسانية
الظاهرة اللافتة في هذه الحرب هي مساندة الشعوب الغربية للقضية الفلسطينية، بعدما وقفت دولهم مع الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يعطي مؤشراً على بقايا الجانب الإنساني المتمثل في ردود أفعال هذه الشعوب المناهضة للاحتلال الإسرائيلي والمعترضة على هذه المجازر في غزة. المشهد بصورة عامة يؤكد على البعد الإنساني فيما يتعلق بالوقوف مع المظلومين ومعاقبة الظالمين، وهذا ما تجسد في الاحتجاجات المتواصلة بالتزامن مع القصف والقتل وتدمير المنازل بقطاع غزة. تأتي هذه الاحتجاجات كنوع من التضامن واتخاذ موقف سياسي معارض لمثل هذه الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال بغزة، ويعكس التضامن أبعاد القضية الفلسطينية وتمركزها في الرأي العام، والنجاح في إيصال حقيقة معاناة الفلسطينيين بمنصات التواصل الاجتماعي، وما تبعها من تفاعلات واسعة النطاق. وهذا تقابله دعاية ضخمة من المنظمات الصهيونية الداعمة للاحتلال؛ ويتجسد على الواقع حضور القضية الفلسطينية كما شاهدنا بمسيرة لندن الضخمة وتجمعات أخرى بفرنسا وإسطنبول.
نتنياهو لم يخطئ في وصفه الذي فهمناه ضمن سياق معاكس. فهو يشعل الحرب بطريقة همجية، ويقصف قطاع غزة ويرتكب هذه المجازر البربرية، وبهذا يتضح الجانب العدواني والمتوحش للاحتلال الإسرائيلي في هذه الحرب التي لا تحترم الإنسان، وبهذا المعنى هي ضد الإنسانية. واستهداف المشافي الصحية والحصار الشامل للقطاع يتوافق مع اعتقادات نتنياهو ووزرائه وقادة جيشه، جميعهم شركاء في هذه المجازر ولا يتقيدون بأية أخلاقيات، ويمارسون جرائم الإبادة على نطاق عالمي واسع.
مشاهد الدمار لا يمكن وصفها، وأعداد الشهداء لا يمكن حصرها. والآن نعود للحصار الشامل، وقطع الإنترنت ودكّ غزة بالصواريخ، وتقطيع الأطفال إلى أشلاء، واستهداف المدنيين والقتل بلا رحمة؛ لا يمكن أن تكون هذه الجرائم إلا دليلاً على أن هذه الحرب كما أخبرنا نتنياهو حرب الإنسانية ضد البربرية، ولكن نسي بأن يحدد الطرف البربري في هذه الحرب؛ وبهذا أعيد صياغته بأن الإنسانية ما زالت حاضرة في سكان غزة، والرحمة مازالت بينهم، والهمجية والبربرية أثبت التاريخ أن رائدها نتنياهو، ومرتكبها جيش الاحتلال، وضحايا تلك الحرب هم الأبرياء والأطفال والمدافعون عن أرضهم وكرامتهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.