دعونا الآن من الحصار، فدماء شهداء مخيم جباليا ما زالت تنزف، والطائرات الحربية للاحتلال الإسرائيلي تواصل إلقاء القنابل الفوسفورية فوق رؤوس المدنيين والأطفال. ولم يعد هناك قانونٌ إنساني دولي يمنع طائرات الاحتلال الإسرائيلي من قصف المستشفيات والمباني التابعة للمنظمات الدولية؛ بعدما أصبحت مأوى للنازحين الذين أرعبتهم صواريخ الاحتلال. خلف هذا الدمار وتلك الحرب وهذه المجازر خطة تهجير جماعية شاركت فيها إدارة بايدن سياسياً ويسعى نتنياهو لإنجازها.
هذه الحرب حطمت نتنياهو من الناحية النفسية، وفرضت عليه قرارات عسكرية لا أهداف لها واعتقد بأنها ستقضي على مسيرته السياسية، وهذا ما يفسر حالة الانهزام المسيطرة على روح جيشه. وإجاباته على الأسئلة الصحفية في المؤتمر الذي عقده أمس كانت كافية لوصف الظروف الصعبة التي يعيشها نتنياهو، فهو يعتبر الدعوات المطالبة بوقف إطلاق النار استسلاماً لحركة حماس، لذا أكد مواصلة الحرب، وبالتزامن مع فيديو الأسيرات، الذي بثته حركة حماس، لم يعد نتنياهو قادراً على مواجهة ملف الأسرى والصمود أمام الضغط النفسي الذي تمارسه حركة حماس على نتنياهو، ولم يعد أمامه من خيارات إلا التأكيد على أن فيديو الأسيرات دعاية نفسية قاسية أطلقتها حماس، وقد اعترفت إحدى الأسيرات بفشل نتنياهو السياسي والعسكري، وعدم مبالاته بإنقاذهن. فهو إذاً بين خيارين، الاجتياح البري ومصير مجهول ينتظر الأسرى، وذلك يعني تكرار عملية السابع من أكتوبر والقضاء على مستقبله السياسي بنفسه. نتنياهو على يقين بأن تحرير الأسرى مجرد حلم، وهذا ما دفعه من خلال المؤتمر بتوجيه دعوة للمجتمع الدولي للمطالبة بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الأسرى. وكعادته حاول التستر على الإبادة الجماعية واستهداف المدنيين في غزة بحجة وقوع هذه الخسائر دون قصد.
وبدلاً من الدعوات المطالبة بوقف إطلاق النار اقترح جون كيربي هدنة إنسانية؛ وأكد أن الدعوات المطالبة بوقف إطلاق النار تصبّ في مصلحة حماس. وبالتالي وقف إطلاق النار ليس من اهتمامات الإدارة الأمريكية في هذه اللحظة. كيربي أعلنها بوضوح شديد أن تركيز الإدارة الأمريكية الآن منصب على تأمين ممر آمن للخروج من غزة، ودور الشركاء في المنطقة يتمحور حول استقبال العائلات الراغبة في الخروج من غزة لفترة مؤقتة، ومن بين أولئك الشركاء ذكر كيربي مصر. الإدارة الأمريكية تخطط لإخراج المدنيين من غزة، وتطالب الشركاء باستضافتهم لفترة مؤقتة، وهذا يعني التهجير.
فمشروع التهجير القسري لم يعد غائباً عن الرأي العام، وتحركات نتنياهو لعرض مشروع التهجير على رؤساء الدول الأوروبية والضغط على مصر لقبول خطة التهجير يتوافق مع وجهة النظر الخاصة بالإدارة الأمريكية، التي عرضها كيربي في تصريحاته الأخيرة. وسعى نتنياهو لطرح خطته على رؤساء الدول الأوروبية بواسطة النمسا والتشيك. وقد عارضت فرنسا وبريطانيا وألمانيا هذه الخطة لكونها غير واقعية بالنظر إلى رفض هذا المشروع من الجانب المصري وعدم قبوله. والإدارة الأمريكية هي التي تتبنى هذه الخطة بشكل سياسي وبلغة دبلوماسية كشف عنها كيربي،فهو لم يقدر على اقتراح تهجير 2.3 مليون، ولكن في سياق الحرب واستهداف المدنيين عرض خطة التهجير بأسلوب إنساني يهدف لحماية المدنيين واستضافتهم لفترة مؤقتة. وانطلاقاً من وجهة النظر ذاتها يبحث نتنياهو عن تنفيذ خطة التهجير بمساعدة من الدول الأوروبية.
ما تقدم ليس مجرد تحليل سياسي، بل هي خطة محكمة. وإعداد خطة التهجير جاء بعد هجوم السابع من أكتوبر على غلاف غزة. تشير الوثيقة المسربة إلى اقتراحات قدمتها وزيرة الاستخبارات المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية. والوزيرة هذه من حزب الليكود الذي يترأسه نتنياهو. وفي الوثيقة المسربة شرح مفصل لاحتلال غزة وتهجير السكان. وقد طرحت هذه الخطة في سياق الاجتياح البري لقوات الاحتلال لقطاع غزة. وبشكل مفصل عرض مخطط الاحتلال لقطاع غزة وتهجير السكان. كما تطرقت الوثيقة لمناقشة البدائل المطروحة بشكل معمق، مع مراعاة الاعتبارات السياسية والدولية لخطة التهجير.
وفي الوثيقة اتضحت الأهداف العسكرية للاحتلال الإسرائيلي؛ نتيجة التوغل داخل القطاع سينفصل الشمال عن الجنوب. ويزداد القصف على شمال قطاع غزة بهدف تهجير السكان نحو الجنوب، وبهذا يتركّز القصف على الشمال مع تطهير الأنفاق من حماس. ومن أجل حماية المدنيين تقترح الوثيقة إجبار السكان على النزوح تجاه الجنوب بحجة الدوافع الإنسانية، وعدم الإضرار بسمعة إسرائيل، ومن أجل تنفيذ هذه الخطة يجب ضمان الدعم الأمريكي لتنفيذ خطة التهجير وإجبار النازحين على الخروج من غزة إلى سيناء وعدم العودة نهائياً. وهذا يتطلب فتح ممرات إنسانية دائمة بين معبر رفح وسيناء.
وبهدف القضاء على حل الدولتين، أوصت الوثيقة بخطة التهجير كحل نهائي لضمان أمن إسرائيل. ومن بين البدائل الثلاثة التي حددتها الوثيقة كالبديل المتعلق بالإبقاء على السكان وإعادة السلطة الفلسطينية بالقطاع أو البديل المتعلق بحكم عربي في قطاع غزة، ركزت الوثيقة على البديل المتعلق باحتلال غزة وتهجير السكان تفادياً لقيام الدولة الفلسطينية بأي شكل. وهذا ما يفرض البديل المتعلق بتهجير السكان وإجبارهم على النزوح إلى سيناء. وفوق أرض سيناء رسمت الوثيقة مستقبل سكان غزة، ورجحت التهجير القسري كحل نهائي وأخير ضمن سياق الاحتلال لغزة والعملية البرية بالتنسيق والدعم الأمريكي لخطة التهجير القسري.
نتنياهو يقف على حافة الانهيار ومستقبله السياسي في هذه الحرب بات وشيكاً، وقد أخبره أبو عبيدة بنهايته السياسية. كتائب الشهيد عز الدين القسام تدك بالصواريخ قواته المتوغلة في قطاع غزة. كتائب القسام تواجه نتنياهو مواجهة عسكرية قوية ومواجهة نفسية وسياسية، فكلما تقدم نتنياهو خطوة للأمام شعر بالإخفاق في ملف الأسرى، وتأكد أن عائلات الأسرى قنبلة تخبره بنهايته السياسية؛ وهو على يقين تام بأن نهاية الحرب تقوده إلى السجن، وهو أيضاً يشعر بعدم رضى المؤسسة العسكرية والأمنية عنه، خصوصاً بعد اتهاماته الأخيرة وإلقاء عملية السابع من أكتوبر على أكتافهم بحثاً عن النجاة وإنقاذ نفسه.
وإدارة بايدن التي بدأت حرب الإبادة مع إسرائيل تشارك أيضاً في إخفاء معالم الجريمة بالتخلص من السكان وتهجيرهم قسراً إلى سيناء. ولكن إدارة بايدن لم تحسب جيداً قراراتها السياسية، فالشركاء الذين تعتمد عليهم لن يشاركوا في عملية التهجير بعدما شاهدوا عملية الإبادة التي لم تتوقف دماء الشهداء فيها، فهم يعلمون جيداً تداعيات هذا الصراع وإمكانية توسعه، خصوصاً أن المنطقة بأكملها باتت مشتعلة، ولم تعد تحتمل. والشعوب أيضاً لهم وجهات نظر مختلفة، فهم يراقبون الحرب منذ اندلاعها، وشركاء إدارة بايدن يفهمون جيداً القضية الفلسطينية وأهميتها الوجدانية في نفوس المسلمين، لذا فالشركاء حذرون من المشاركة في خطة التهجير. هذه الحرب بدأها الاحتلال وساعدته الإدارة الأمريكية، وهي التي تكفل إيجاد حل لسفك دماء المدنيين غير إبادتهم أو تهجيرهم لسيناء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.