لم يدرك الإسرائيليون بعد، أن تكرار تهديدهم للبنان بإعادته إلى العصر الحجري، وتدمير بنيته التحتية، تحول إلى شيء من الفكاهة والسخرية عليهم من قِبل الشعب اللبناني، وذلك لأنه سبق للبنانيين أن عاشوا وعانوا عشرات المرات من الاعتداءات الإسرائيلية عليهم. ولكن مع انتهاء كل معركة وحرب، كان اللبنانيون يعودون إلى الحياة، وبناء ما تهدّم، كما تعود أسطورتهم في طائر الفينيق إلى الحياة، وبذلك أثبتت التجربة التاريخية أن لبنان في كل مرة أعادته إسرائيل إلى ما قبل التاريخ، عاد وبقوة الى العصر الحالي، ذلك لأنه جزء أساسي من التاريخ البشري، ولكن ما لا يدركه الاحتلال الإسرائيلي أنه في حال دخل لبنان حرباً معهم عبر المقاومة وصواريخها الدقيقة، فإنها ستقوم بإرسالهم إلى ما قبل التاريخ، عبر استهداف أبرز مرافقهم الاقتصادية والحيوية، ومن المؤكد أنهم لن يعودوا، ذلك لأنهم لن يكونوا يوماً جزءاً من تاريخ فلسطين.
حين انتهت حرب تموز بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي في العام 2006، انشغل الإسرائيليون في ما سمّوه "استخلاص العبر والدروس" والتي هدفت باختصار إلى إعادة ثقة الجيش الإسرائيلي بنفسه أولاً وثقة المستوطنين بالمؤسسة العسكرية ثانياً، وذلك غداة عجز وفشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أي من أهدافه التي أعلن عنها في بداية الحرب، وقد كانت سابقة تاريخية في حروب إسرائيل طوال 75 عاماً.
17 عاماً والجيش الإسرائيلي يتدرب ويتحضر لتلك المعركة التي سيعيد فيها الاعتبار لنفسه، فجاءت عملية طوفان لتشكل صدمة للاحتلال الإسرائيلي، قد لا ينهض منها، 17 عاماً هي عبارة عن مليارات الدولارات التي أنفقها في التحضيرات لتلك الحرب، وبدل أن تعاد ثقة المستوطنين بجيشهم، فقدوا في خلال 6 ساعات الشعور بالأمان في كيانهم، فأصبح المستوطنون اليوم بلا ثقة في جيش يحميهم ولا كيان يؤمن الحماية له. لذلك، وقبل أن يخرج المستوطنون من الصدمة النفسية والمشاهد التي حصلت في ذلك اليوم، وقبل أن يخيروا أنفسهم في البقاء في كيان لم يعد قادراً على حمايتهم، وبين العودة الى البلدان التي أتوا منها، سارعت القيادة السياسية في إسرائيل للتعامل مع الحرب في غزة كحرب وجودية.
الواضح اليوم أن المقاومة في فلسطين ولبنان كانت أكثر براغماتية في استخلاص العبر والدروس من حرب تموز، فبعد إسقاط اسطورة دبابة الميركافا في تلك الحرب، أسقطت المقاومة في فلسطين اليوم أسطورة الجدار الأمني الدفاعي، وأسطورة قوة الاستخبارات الإسرائيلية، والواضح بأن كل التعديلات والأموال التي صرفت من أجل تحسين الميركافا ما زالت ضعيفة أمام صواريخ الكورنيت.
حزب الله في لبنان، وعلى الرغم من أنه فقد عنصر المفاجأة التي استعملتها حماس، والتي كان يراهن في جزء كبير من خطته عليها،فإن في جعبته الكثير من المفاجآت التي عمل لسنوات على التحضير لها ويدرك الاسرائيليين هذا الشيء، وما يصب في مصلحة الحزب اليوم، بأن القيادة العسكرية الإسرائيلية تعيش أزمة ثقة في الاعتماد على معلومات مخابراتها بعد فشلهم في غزة، وهي اليوم على الحدود عمياء بعد استهداف المقاومة لمعظم أجهزة جمع المعلومات، ويحاول تعويض هذا النقص باستخدام الطائرات بدون طيار والتكنولوجيا الأمريكية.
يدرك الحزب أن الولايات المتحدة الأمريكية تنتظره في عرض البحر، وأن الثمن البشري والمادي من تدمير البنية التحتية وغيرها سيكون عالياً جداً، إلا إنه يعلم بأن تاريخ مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية في الرمال اللبنانية منذ العام 1958 مروراً بالعام 1983 ووصولاً إلى يومنا هذا لا تصب في مصلحتها وهي التي تلقت في بيروت واحدة من أكبر خسارتها بعد حرب الفيتنامية.
كما أن استخدام الطائرات الحربية الأمريكية لا تشكل هاجس حقيقي للحزب، لان استراتيجيته العسكرية في الأساس مع الكيان الصهيوني تقوم على الأنفاق لتفادي الطائرات والتي بالأساس هي أحدث الطائرات الامريكية، وتجربة العام 2006 دليل على ذلك، كما أن الامريكيين أنفسهم فشلوا في هذا النوع من الحروب في جبال تورا بورا في أفغانستان.
يدرك جميع الأطراف من إيران وصولاً للولايات المتحدة الأمريكية مروراً بموسكو أنه في حال تمددت الحرب لتصبح حرب إقليمية، فإن الجميع سيخسر، لكن هذه الخسارات ستكون بشكل متفاوت، البعض ستنحصر خساراته في الماديات والقوة البشرية والبعض الآخر سيخسر نفوذ وحضور على ساحة الاقليمية، ففي حال فاز الأمريكيون فإن حضورهم سيتضاعف على حساب المصالح الإيرانية في المنطقة، والأكيد أنهم سيستثمرون هذا الفوز لزعزعة أمن إيران الداخلي ومحاولة دفعها للخروج من جانب روسيا، أما في حال فوز محور المقاومة فإن الثمن سيكون باهظا على الأمريكيين فبعيداً عن المكتسبات التي ستعتبر تحصيل حاصل في سوريا والعراق ولبنان، يأتي الخوف الأكبر للأمريكيين أن يؤدي فوز هذا المحور في تهديد الأنظمة السياسية للدول المطبعة، خاصة أنها تقع اليوم تحت ضغط شعبي كبير.
إلا أن الخاسر الأكبر في جميع السيناريوهات محسومة لصالح الكيان الصهيوني، فالأزمة السياسية التي كانت تعصف به قبل عملية طوفان الأقصى كانت أزمة تهدد النظام، ولأول مرة في تاريخها تطفو المشاكل السياسية والعسكرية بين القادة الإسرائيليين في حالة الحرب، ولأول مرة يفقد الشعب الثقة في قيادته السياسية والعسكرية والمخابراتية معاً.
كما أن إعلان إسرائيل أن واحداً من أهداف حربها على غزة هو القضاء على حماس، والهدف المتوقع في حال اتساع رقعة الحرب وهو القضاء على حزب الله، أهداف غير واقعية، ذلك أن التنظيمين ينتميان إلى بيئة شعبية حاضنة مرتبطة أيديولوجياً بهم. لذلك ستواجه إسرائيل معضلة في إعادة الآلاف من المستوطنين إلى غلاف غزة والشمال، الأمر الذي سيدفع أزمتهم السياسية إلى المزيد من التعقيد والحدية، وذلك كله سيكون على وقع المحاسبات والمحاكمات للمسؤولين عن هزيمة إسرائيل في 7 أكتوبر من العام 2023.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.