لا صوت يعلو فوق صوت المعركة الآن في إسرائيل، لكن هذا الصوت لا يُخفي وراءه إلا كارثة كبيرة، تنتظر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لا يهرب إلى الأمام في غزة من أجل "الانتقام"، لكن في الحقيقة هو يهرب من أجل نجاته فقط.
ذهبت سكْرة التوقيع على بياضٍ التي كانت يتمتع بها "بيبي"، الوصف الذي يُحبه نتنياهو، وجاءت فكرة الحساب: مَن يدفع ثمن ما حدث في يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومَن يتحمل الإخفاق والكارثة التي تعرضت لها إسرائيل لأول مرة في تاريخها بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973؟.
الحقيقة أن نتنياهو يتحمل وكل من تحالف معه من اليمين المتطرف في إسرائيل نتيجة هذه الحرب وما سيترتب عليها، وإن كان الكثير ينتظر دولة الاحتلال على المستوى السياسي والعسكري والاستراتيجي والاقتصادي أيضاً.
الفاتورة السياسية
عندما أطلقت نخبة حماس العسكرية الطلقة الأولى على الجنود الإسرائيلين في المستوطنات، أصابت معها تحالف نتنياهو السياسي مع اليمن المتطرف، ولم يعد ذلك الآن خفياً على أحد، فالكثير من الخلافات السياسية في معسكر الحكم طفت على السطح منذ انطلاق العملية العسكرية، وما زالت مستمرة.
لعل ذلك هو الذي دفع نتنياهو للهرولة صوب المعارضة وتشكيل حكومة طوارئ، بهدف توريط كل التيارات السياسية في إسرائيل في هذه الحرب، وتحمُّل الجميع مسؤولية ما حدث معه، لكن هذا لن يشفع له، وهذه الخطوة سيكون لها ما بعدها، حتى لو سلَّمنا بقدرة الحكومة الحالية على تحقيق ما فشِل فيه رئيس الوزراء.
هذه الأحزاب لن تستمر طويلاً في تحالف، ولو مؤقتاً، يضمن لنتنياهو النجاة من المصير المحتوم، وهو السجن، أو على الأقل الاستقالة بعد انتهاء آثار الطوفان، فلسان حال هذه الأحزاب: لماذا ندفعُ نحن فاتورة أخطاء طمع نتنياهو السياسي، ولماذا نقدم له نحن قُبلة الحياة السياسية؟ وإن كان سقوطه مسألة وقت، وقصير جداً.
نتنياهو وحده يتحمل هذه الفاتورة، لأن حكومته المتطرفة هي التي تسببت في الشرخ الكبير الذي تعرَّض له المجتمع الداخلي خلال العامين الماضيين، لأول مرة منذ قيام إسرائيل يحدث هذا الانقسام في قضايا مهمة بالنسبة لهم، أعادت إلى الواجهة الدولة الهشة المقسمة داخلياً، ولو لم يتم الإعلان عن ذلك بشكل واضح، لكنها هي الحقيقة التي يريدون أنكارها.
الأمن.. لم يعد كما كان
على المستوى الأمني تعرضت إسرائيل لهزة كبيرة لن تتعافى منها في القريب، وربما ستأخذ الكثير من السنوات حتى تعود لما كانت عليه، فالصدمة كانت كبيرة، وكبيرة جداً، والتحقيقات التي تتكشف تباعاً تُظهر أن اختراقاً ما تعرَّضت له الأجهزة الاستخباراتية والأمنية الإسرائيلية، قبل عملية الطوفان وأثناءها، وأن ما حدث من حماس خلال ساعات قليلة كشف حقيقة ما يُروّج له منذ عقود، بأن إسرائيل هي واحة الأمان في محيط مضطرب.
شاهدنا وشاهد الملايين عبر منصات التواصل الاجتماعي كيف هرع الآلاف من الموجودين في إسرائيل إلى مطار بن غوريون، للرحيل من "واحة الامان"، وتحولت تل أبيب إلى مدينة أشباح، بسبب القصف المتواصل من فصائل المقاومة على المدن الفلسطينية المحتلة، ولم يعُد أحدٌ يتحدث عن البقاء في هذه المدن ولا عن الأمان الذي كانت تتغنى به يوماً ما، وأيضاً لن تجد الآن من يفكر في زيارة إسرائيل أو العودة إليها إن كان في الخارج بسبب ما حدث، فلا أمان ولا استقرار ولا بقاء في إسرائيل.
ظلَّ رؤساء الحكومات المتعاقبة في إسرائيل يُروّجون أن الكيان المطعون في قلب العالم العربي هو أكثر بلدان العالم جذباً للبشر في السنوات الأخيرة، لمن أراد أن يعيش حياةً رغدة، ديمقراطية، وأيضاً آمنة، لكن كل هذا دُمّر صباح السبت، الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول، وأصبح البلد طارداً لكل من فيه، وبات نتنياهو هو المسؤول الأول عن هذا، رغم أنه ظلَّ سنواتٍ يتفاخر بأنه نجح فيما أخفق فيه كل حكام إسرائيل منذ قيامها، والآن أيضاً سيُنظر إليه على أنه هو الأول منذ قيامها الذي جعلها كياناً "منبوذاً" لا يريد أحد أن يلجأ إليه.
هذه فاتورة مهمة سيدفعها نتنياهو مباشرةً عندما تضع الحرب أوزارها، وحينها لن يصبح أمامه إلا دفع الثمن.
إنه الاقتصاد يا غبي
"إنه الاقتصاد يا غبي"!.. كانت هذه العبارة كفيلة بأن تضع حداً لمسيرة الرئيس الأمريكي الراحل جورج بوش الأب، أمام الرئيس الأسبق بيل كلينتون، عام 1992، ونجح حينها في الفوز بالانتخابات، هي نفسها يمكن أن توجه إلى نتنياهو الذي يدفع يومياً من الاقتصاد الإسرائيلي بسبب الحرب المستمرة لأكثر من أسبوعين، فلأول مرة منذ عام 2014 يتراجع الشيكل الإسرائيلي إلى هذا المستوى أمام الدولار، ولأول مرة تتراجع بورصة تل أبيب أيضاً، رغم الحديث الحكومي من نتنياهو وفريقه بأن هذه الفترة مؤقتة، وأن التعافي سيكون سريعاً، لكن يبدو أيضاً أن هذا ضربٌ من ضروب الخيال، لكن الأرقام القادمة تتحدث عكس ما يتمناه "بيبي" وفريقه، لكن تكلفة الحرب وفاتورته كبيرة جداً في ظل استدعاء جنود الاحتياط الذين هم بالأساس يعملون في القطاعات الاقتصادية بعيداً عن الجيش.
فبحسب هيئة الاستثمار الإسرائيلية تقدر خسائر الحرب بأكثر من 70 مليار شيكل مما يوازي نحو 17 مليار دولار في 17 يوماً فقط فماذا لو استمرت الحرب لشهرين مثلاً؟
فاتورة الاقتصاد هي الأقوى على إسرائيل، وإن كانت الخسارة العسكرية فادحة، لكن القصف المتواصل على غزة قد يجعلها أخفَّ وطأة في ظل تراجع الاقتصاد وتوقفه بسبب المعركة الدائرة، فبعد أيام فقط من الحرب زاد حد الانتقاد العلني لنتنياهو بسبب الحرب، فيما يحمّله الكثير من الإسرائيليين نتيجة ما حدث، وتحالفه المتطرف هو الذي دفع المنطقة إلى هذا الحد من الخطورة.
رحيل نتنياهو
أثناء كتابة هذا المقال نشرت وسائل إعلام إسرائيلية أن وزراء في حكومة نتنياهو هددوا بالاستقالة، وتحميله مسؤولية ما حدث، وهذا أمر كان متوقعاً، لأن التاريخ يقول إن المسؤول عن اندلاع الحروب في الدول الغربية سيكون هو أول من يدفع الثمن.
هذا بالفعل ما سيتحقق مع نتنياهو في القريب العاجل، وربما أقرب مما نتخيل، وقد يكون هذا من الأسباب التي ستدفع نتنياهو لإطالة أمد الحرب الحالية، لأنه في اليوم الثاني لوقف إطلاق النار سيصبح هو رئيس وزراء سابقاً لإسرائيل.
لعل هذه الفاتورة هي التي يفكر في ثمنها نتنياهو بكل اهتمام، بسبب تداعيات هذه الاستقالة، أو سحب الثقة، لأن مستقبله السياسي سيكون حينها انتهى وإلى الأبد، وأن مصيره السجن، بسبب قضايا الفساد التي وضعت في الأدراج "مؤقتاً"، بسبب حلمه السياسي الذي حوّلته فصائل المقاومة إلى كابوس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.