على مدى الأسبوعين الماضيين، تجتاح دوائر الحكم والسياسة والإعلام الغربية حالة من الهستيريا فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على غزة، ورغم أن الدعم الغربي لدولة الاحتلال الإسرائيلي عسكرياً ودبلوماسياً واقتصادياً هو مسألة قديمة ومستمرة، إلا أن هذه المرة يبدو أن الأمور قد ذهبت بعيداً؛ حيث تورطت مختلف هذه الدوائر -وعلى أعلى المستويات- في نشر البروباجندا الصهيونية وما تضمنته من مغالطات وأكاذيب كجزء من تهيئة الرأي العام الدولي للتصعيد العسكري -غير المحدود ربما- في المنطقة، وأخذت في دق طبول الحرب، وإرسال الأسلحة وحاملات الطائرات وتحريك القوات، والمزايدة على أي دعوات للتهدئة ونزع فتيل الأزمة حتى في أروقة الأمم المتحدة، كما قامت بجولات دبلوماسية مكوكية في المنطقة تضمنت تهديدات وإغراءات من أجل ضمان اصطفاف كافة القوى الإقليمية خلف هذه الحملة، أو تحييدها على الأقل، بالإضافة إلى القمع البوليسي والإعلامي لأي أصوات منتقدة أو مخالفة داخل مجتمعاتها، بما يخالف قيماً أساسية في منظومتها السياسية كحرية التعبير والحق في التظاهر ونحوهما.
هذه الهستيريا قد تُفهم أنها دليل على النفوذ الصهيوني داخل دوائر الحكم في العالم الغربي، وإظهار مدى التزام هذه الحكومات بأمن إسرائيل في أزمة تبدو وجودية لدولة الاحتلال، لكن أظن أن الأمر أبعد من ذلك، وأن دور الإدارة الأمريكية وحلفائها الغربيين في هذه الأزمة هو دور الفاعل وليس فقط الداعم والمساند، وهو ما يذكرنا بحالة الهستيريا السياسية والإعلامية التي اجتاحت العالم الغربي -ولا تزال- خلال الأزمة الروسية الأوكرانية، وتجاوزها لكافة الأعراف السائدة في الصراع الروسي الغربي في حقبة ما بعد الحرب الباردة، بل وتجاوزها لحسابات المصلحة السياسية والاقتصادية المباشرة للحكومات الغربية، حيث لم يكن الدور الأمريكي -والغربي بالتبعية- دوراً داعماً ومسانداً فقط، بل كان أقرب إلى حرب بالوكالة من أجل تحجيم النفوذ الروسي، وإنهاكه عسكرياً واقتصادياً، وعزله دبلوماسياً، وذلك في إطار سعي الولايات المتحدة للحفاظ على نظام القطبية الواحدة المتداعي حالياً، ومنع ظهور منظومة دولية متعددة القطبية.
بالمثل، على ما يبدو أن ما نمر به الآن هو "اللحظة الأوكرانية" بالشرق الأوسط؛ إذ إن حدود الدور الأمريكي والغربي في الأزمة الحالية يتجاوز فكرة الحليف والداعم لدولة إسرائيل إلى دور الفاعل، الذي يدير الصراع ويحدد أهدافه ويرسم خطواته ومراحله، بينما يمكن تشبيه دور إسرائيل بدور الوكيل الإقليمي، وهو الأمر الذي تشي به تصريحات الرئيس الأمريكي وأفراد من إدارته في بعض الأحيان، "لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها"، وفهم الأمر على هذا النحو يفسر حالة الاستنفار العام في دوائر الحكم الغربية من جهة، وحالة التوتر المتزايد داخل الأنظمة الحاكمة في الإقليم من جهة أخرى؛ إذ إن أهداف هذه العملية -وفق هذه القراءة- سيتجاوز مجرد إسقاط سلطة حماس في غزة وإعادة هيكلة السلطة الفلسطينية، أو حتى ترحيل وإعادة توطين الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية في دول الجوار، على ضخامة وفداحة هذه الأهداف من حيث كلفتها السياسية والعسكرية، بل سيتضمن كذلك إعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط، وإعادتها إلى دائرة النفوذ الأمريكي بعد فترة من التراجع أو قل اللامبالاة النسبية إزاء المنطقة، وهو ما يعني ربط هذا الصراع بالصدام الأوسع بين الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية من جهة مع القوى الدولية المناوئة التي نجحت في تعزيز تواجدها العسكري ونفوذها في المنطقة؛ مثل روسيا والصين، ويعني بطبيعة الحال تحجيم نفوذ عدد من القوى الإقليمية التي تمددت في الفراغ النسبي الذي خلّفه التراجع الأمريكي خلال العقد الماضي، بداية من إيران، وحلفائها أو وكلائها الإقليميين، كالنظام السوري وحزب الله وجماعة الحوثي، مروراً بتركيا، وانتهاء حتى بحلفائها التقليديين في دول الخليج، والذين تمتعوا باستقلالية وبهامش مناورة متزايد في السنوات الماضية، إلى الدرجة التي هددت مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
ربما من المبكر القطع بمسار تطور الأحداث في الأزمة الراهنة؛ إذ يبدو أن جميع الفاعلين الدوليين والإقليميين منخرطين حالياً في حساباتهم الخاصة بنقاط القوى والضعف، والأوراق التي يمكنهم توظيفها أو التفاوض بها، وهو ما يعقد المشهد ويصبغه بحالة من اللايقين، لكن، باستقراء حالة الاستنفار والتحشيد الأمريكي والغربي، يمكن الزعم أن تأطير هذه الحرب الوحشية الدائرة في غزة حالياً هو أبعد من مجرد ضمان أمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، بل ربما أبعد حتى من إيجاد تسوية نهائية للقضية الفلسطينية، بل يمكن اعتبارها حرباً من أجل استعادة نفوذ وإعادة ضبط موازين القوى داخل الشرق الأوسط، وفق صراع أوسع على تشكل -أو منع تشكل- نظام عالمي جديد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.