في أثناء مؤتمر القمة العربية الرابعة عشرة ببيروت، سنة 2002، تم تبنّي مبادرة السلام العربية، التي تنص أساساً على إقامة دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو 1967، أي الحدود قبل نكسة يونيو 1967، التي احتلت فيها القوات الإسرائيلية كل فلسطين والجولان وسيناء، وتنص مبادرة السلام العربية على أهم النقاط التالية:
– إذ يؤكد ما أقرّه مؤتمر القمة العربية غير العادي، في القاهرة في يونيو 1996، أن السلام العادل والشامل خيار استراتيجي للدول العربية، يتحقق في ظل الشرعية الدولية، ويستوجب التزاماً مقابلاً تؤكده إسرائيل في هذا الصدد.
– وبعد أن استمع إلى كلمة صاحب السمو الملكي، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ولي عهد المملكة العربية السعودية، التي أعلن من خلالها مبادرته داعياً إلى انسحاب إسرائيل الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة منذ 1967، تنفيذاً لقرارَي مجلس الأمن (242 و338)، واللذين عزّزتهما قرارات مؤتمر مدريد عام 1991، ومبدأ الأرض مقابل السلام، وإلى قبولها قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية. وذلك مقابل قيام الدول العربية بإنشاء علاقات طبيعية في إطار سلام شامل مع إسرائيل.
وقد تبنّت حركة حماس سنة 2017 في وثيقة المبادئ والسياسات العامة فكرة إنشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة، في حدود 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشريف، دون أن تتنازل عن أي جزء من الأراضي الفلسطينية لدولة فلسطين التاريخية. ما يعني القبول بأن تقام دولة فلسطين على مساحة 22% من أرض دولة فلسطين التاريخية، التي سبقت الاحتلال الإسرائيلي في 15 مايو 1948.
كما أنه لم تكن هناك دولة فلسطينية، في الرابع من يونيو 1967، لأن دولة "فلسطين التاريخية" كانت واقعة تحت الانتداب البريطاني قبل أن تحتل العصابات الصهيونية، بدعم كامل من الانتداب البريطاني، 78% من أراضيها، وتعلن فيها قيام دولة إسرائيل سنة 1948، وبقية الأراضي الفلسطينية مقسمة بين الأردن في الضفة الغربية، ومصر في غزة، حيث نجد في الوثيقة الصادرة في الأول من مايو سنة 2017 عن حركة حماس ما يلي:
20- لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها.
ومع ذلك -وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الإسرائيلي ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية- فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة.
27- لا بديلَ عن إقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على كل التراب الوطني الفلسطيني، وعاصمتها القدس.
لكن هل دولة فلسطينية في حدود 4 يونيو 1967 ممكنة واقعيّاً؟
إن المبادرة العربية للسلام وفكرة حل الدولتين تستند إلى قرار مجلس الأمن عدد 242، الصادر بتاريخ 22 نوفمبر 1967، إثر نهاية الحرب الخاطفة الإسرائيلية على الجيوش العربية، والتي انتهت بهزيمتها واحتلال إسرائيل لكامل فلسطين، إضافة لسيناء والجولان، حيث نصَّ القرار على ما يلي:
يؤكد أن تحقيق مبادئ الميثاق يتطلب إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، ويستوجب تطبيق كلا المبدأين التاليين:
أ- سحب القوات المسلحة من أراض (الأراضي) التي احتلتها في النزاع، (تم حذف الألف من كلمة أراضي في الصياغة الإنجليزية للقرار عمداً، بهدف المحافظة على الغموض في تفسير هذا القرار).
ب- إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب واحترام واعتراف بسيادة وحدة أراضي كل دولة في المنطقة واستقلالها السياسي، وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، وحرة من التهديد وأعمال القوة.
تلك هي الأسس النظرية والقانونية التي تستند عليها بعض القيادات العربية حين تتحدث عن السلام العادل بين العرب وإسرائيل، بل إن بعض تلك القيادات بررت التطبيع كأداة لتسوية القضية الفلسطينية وإحلال السلام وتحقيق حل الدولتين، مع أن المبادرة العربية للسلام تجعل التطبيع خاتمة وليس مقدمة لتحقيق السلام. وقد ارتفعت الكثير من الأصوات في العالم مطالبةً بتحقيق حل الدولتين، بعد طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023، وما نتج عنه من رد فعل انتقامي إسرائيلي وحشي تجاه الشعب الفلسطيني، حيث إلى الآن لا تدور حرب إسرائيل كما ينص القانون الدولي للحرب مع المقاتلين، بل تجاه المدنيين العزل والبنى التحتية المدنية من مستشفيات وكنائس ومساجد وطرقات ودور سكنية، ما أدى لإبادة جماعية لعائلات بأكملها، ولمئات الأطفال والرضع، ولكن هل هذا الحل واقعي اليوم؟
إن الوقائع على الأرض، حيث تسيطر القوات الإسرائيلية على كامل الضفة الغربية، وتحاصر عزة منذ 2006، بدعم من دول المحيط العربي، تجعل الحل المذكور غير قابل للتحقيق، إضافة لما صرَّح به أحد رؤساء دول المحيط، بأنهم (أي العرب) قبلوا حل دولة فلسطينية دون قوة عسكرية، وهذا يعني صراحةً أنها لن تكون لها سيادة على حدودها، ولا قدرة على حماية أمنها، ولا يجب أن ننسى أن المستوطنات الإسرائيلية قد اقتطعت أغلب من 22% من أرض فلسطين المخصصة لإقامة الدولة، وأن كل الحكومات الإسرائيلية مهما كانت خلفيتها الأيديولوجية يسارية أم يمينية ترفض تفكيك المستوطنات، بل إن جيش إسرائيل يحميها، فكيف يمكن إقامة تلك الدولة الفلسطينية، وأكثر من 70% من الـ22% من أرض فلسطين المخصصة لإحداث الدولة تحت سلطة المستوطنين والجيش الإسرائيلي، ومع تشجيع بعض العرب لفكرة دولة دون سيادة فعلية، فكيف يمكن لهذه الدولة استرجاع أراضيها المخصصة لها من قبل قرار الأمم المتحدة والمبادرة العربية للسلام، هذا إن لم تقم المستوطنات مدعومة من الجيش الإسرائيلي بمزيد قضم حدود تلك الدولة التي لن تملك حولاً ولا قوة.
إن الموقف الأخير لأحد الرؤساء العرب، الداعي لتهجير أهل غزة لصحراء النقب، وتصفية المقاومة الفلسطينية يزيد الأمر سوءاً، ويجعل حل الدولة الفلسطينية مستحيلاً، لأن الواقع التاريخي يكشف أنه كلما هجّرت إسرائيل جزءاً من شعب فلسطين أحلت محله عصابات المستوطنين، ما يعنى عمليّاً حذف غزة من فكرة الدولة الفلسطينية، والتي لن يبقى لها إلا جزء بسيط من الضفة الغربية، لا يصلح لبناء محافظة، فما بالك بدولة كاملة السيادة، خاصة أن الضفة الغربية تم تقطيع أوصالها من خلال المستوطنات الإسرائيلية.
ولن نضيف شيئاً لما قيل إذا ما قلنا إن موقف الرئيس العربي يعبر عن جهل فادح بمصالح دولته الأمنية والاستراتيجية، قبل المس بمصالح الفلسطينيين في بناء دولة مستقلة. ذلك أن إفراغ غزة من سكانها بنفيهم وتهجيرهم لصحراء النقب، هو تعرية لظهر تلك الدولة، التي لا يجب أن ينسى رئيسها أنه مهما تنازل للصهيونية فإن دولته تبقى طبق عقيدتهم العدو الرئيسي لهم، وأن مشروع تفكيكها لدويلات، أو دفعها نحو حرب أهلية طائفية موضوع على الطاولة، وأن حماية أمن فلسطين هو قبل كل شيء حماية لأمن دولته.
إن السلام العادل أمر محمود، ولكن الوضع الراهن يكشف بشكل لا يدعو للشك أن تحققه أمر مستحيل، ما لم تدفع المعركة القادمة في أرض فلسطين الطرف المهيمن المدعوم من القوى العالمية لقبول ذلك السلام العادل، ولن يتحقق ذلك إلا بهزيمة أخرى مثل التي حدثت يوم 7 أكتوبر 2023، وقد أثبتت حرب لبنان أن إسرائيل لا تجنح للسلام إلا عند تعادُل القوى. دون ذلك يبقى الحديث عن السلام مجرد لغو وثرثرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.