اسمي سيد عبد الحميد وفي عام 2008 شاهدت على شاشة قناة الجزيرة قصفاً استمر لأكثر من 28 يوماً بشكل متواصل على قطاع غزة. كنت طفلاً آمناً لا يعي أغلب التفاصيل، وبالطبع لم أكن أفهم أي شيء عن طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، كل ما أتذكره هو صور حية مكثفة لشهداء وضحايا وجرحى، كل سيدة تبكي على فقيدها ورجال بعيون باكية يشيعون الجثامين الطاهرة التي لفظت أرواحها في فزع، ربما أثناء النوم أو خلال انتظاره، في لحظة غفلة من لحظات الحرب الدامية قُتلوا.
أنا مواطن مصري عرفت منذ الطفولة أننا انتصرنا في حربنا ضد عدو صهيوني لا يعرف الرحمة ولا يعرف الحق، هو الباطل بعينه الذي يمارس بكائياته دائماً من أجل اكتساب شرعية للإبادة والتطهير العرقي.
لحظة
منذ عدة أيام بدأت عملية طوفان الأقصى وقبل ظهور أي تفاصيل عن ما حدث انتشرت الأقاويل عن عدم وجوب المساس بالعُزل والمدنيين وقبل أن أفكر في تحليل الأمر تكثفت الصور في ذاكرتي وتذكرت شيرين أبو عاقلة التي ماتت غدراً على الهواء مباشرة، تذكرت محمد الدرة الذي مات وأنا في بدايات حياتي وحينما عُرضت صورته على الشاشة في سنوات إحياء ذكراه فيما بعد وسألت أمي عنه حكت لي القصة كاملة وحينما خشيت الموت بهذه الطريقة قالت لي أمي لا تخف، لقد حاربناهم من قبل وهزمناهم وبيننا وبينهم حالة سلام.
تعود لي الذكريات دفعة واحدة الآن، بعد 15 عاماً امتلأت فيهم ذاكرتي بصور الموتى من كل بقاع الأرض العربية التي لو لم يقصفها محتل قتل أهلها بعضهم البعض. تعود صور عام 2008 لتقفز أمام عيني أكثر حيوية على شاشة التلفاز وعلى فيسبوك وإكس وإنستغرام، تعود الصورة من جديد ليعود الأرق، الإسرائيلي الذي يقتل بلا رحمة ويسرق أرض فلسطين سرق النوم من عيني، وكما قتل ويقتل فقط لأنه إسرائيلي فإننا نعيش أياماً بلا جديد، سيناريوهات مكررة في عالم قبيح يدعم إسرائيل على الملأ ويستنكر على الفلسطيني صاحب الأرض رفع السلاح للدفاع عن نفسه.
يستفزونك ويقولون لو لم يبدأ أحد بالهجوم لما وصلنا إلى هنا رغم أن القصف الإسرائيلي لم يتوقف منذ عام 1948 ولكننا من كثرة الانتهاك وتوقف عداد الموتى الفلسطينيين فقدنا قدرتنا على التفاعل لذا يبدو رقم موت 1000 إسرائيلي رقم كبير أمام عيوننا لأنه غير عادي، أما لو تضاعف الرقم مئة مرة وكُتب بجانبه فلسطيني فإنه سيكون مجرد إحصاء غير مؤثر.
هذه طبيعة بشرية، وعلى ما يبدو أن العالم كله متأثر بهذا الأمر حتى العرب. كل إسرائيلي هو إرهابي، هو لص، هو قاتل، وهو سارق. الإسرائيلي الآن يقصف ويقتل ويُبيد بدعوى محاربة الإرهاب، وبمباركة عربية وتعاون غير مسبوق من دول تفتح مجالاتها الجوية للسماح لمرور دعم الشيطان الأميركي للسرطان المستوطن.
أرق
منذ أيام وأنا لا أنام، الحرب في كل مكان تفجعني وتفزعني، ولكن هذه الحرب ليست كغيرها، هذه إبادة من طرف واحد، إبادة تحدث أمام أعين الجميع، كل العرب مكتوفي الأيدي رغم كل الديكتاتورية والوحشية التي يمارسها حُكام هذه المنطقة على شعوبهم يمارسون أكثر الحلول دبلوماسية مع من يقتل الأطفال والنساء ليرد اعتباره الوحشي أمام عالم ينتفض لحق الكلاب والقطط والمواطن الأشقر، ولكنه لا يرى الفلسطيني، المواطن الذي خُلق ليكون فداءً لقضية بلاده، ليقتله عدو إسرائيلي خسيس.
القضية الفلسطينية ليست محل مزايدة، ولا مجال لهذا، والصراع القائم هو صراع بين حق وباطل، حتى لو انقلبت الصورة في أوقاتٍ ما وبات علينا وضع كل شيء في مكانه من جديد. التعريف بطبيعة هذا الصراع ليست من منطلق عقائدي فقط، ولكنها يجب أن تنطلق من رؤى إنسانية في الأساس. ما يحدث ليس غرضه إثبات وجهات نظر دينية في الأساس، ولا سياسية في المطلق، النهش في الأرض الفلسطينية وممارسة التطهير العرقي وقتل الأطفال والنساء لا يمكن أن يحتاج لمواقف تنديد أو دعم لقضية مثل هذه باعتباره أمراً مفروغاً منه، ولكني أتحدث عن زمن الإعلام الأحادي الذي يمرر صور ضحايا حرب أوكرانيا ويحظر صور ضحايا الاحتلال الغاشم ويحظر ناشريها، في عصر البث المباشر لجرائم الاحتلال ما زال البعض يعتقد أن فعل المقاومة مجرد حركة إرهابية وأن الصمت أمام السرطان المستوطن سيجعله يتراجع عن جرائمه أو يتوقف عنها.
غفوة
شعور بالعار لكل هذا السكوت، مهما قلنا وفعلنا ونددنا وشجبنا، لا أحد يراك ولا أحد يسمعك ولا أحد يساعد ولا أحد يوقف حرب العدو الصهيوني على نساء وأطفال، هذه ليست حرب بل إبادة، مجزرة، هذه عاداتهم، ما الذي يجب أن نفعله؟
يقول وزير الأمن القومي الإسرائيلي إن فلسطين تحتاج أطناناً من المتفجرات فقط وليس جراماً واحداً من المساعدات الإنسانية.
هذا ما يقولونه للعالم بفمٍ ممتلئ بجثث الأطفال والنساء، بجثث الفلسطينيين، اللعنة على العالم والحرب، ألا يوجد من ينقصنا من هذه الحقبة القذرة، ألا يوجد من ينقذ الأطفال والكبار، النساء والرجال العجائز، ألا يوجد من يرفع الظلم عنا في هذا العالم الحقير؟!
حتى لا ينسى أحد. 17 أكتوبر 2023 تم قصف المستشفى المعمداني ليموت كل من حاولوا النجاة جراء القصف المستمر لأكثر من عشرة أيام، ليموت كل من يحاول التشبث بالحياة في ظل نقص الغذاء وانقطاع الكهرباء والمياه والاتصال مع العالم، ليموتوا ويتمزقوا أشلاء في ثوانٍ معدودة لأنهم لو عاشوا سيسعون لأخذ حقهم. في زمن البث المباشر للانتقال الفلسطينيين من الدنيا إلى الآخرة مازالوا يطالبون محمد صلاح بإعلان تضامنه مع ضحايا غزة، ليس لشيء إلا أن كل هؤلاء الأطفال بالتأكيد كانوا يعرفون صلاح، بالتأكيد أحبوه ولعبوا الكرة تيمناً به، الآن صلاح إنجليزي يخاف على صورته أمام العالم، يتبرع بمليون دولار في صمتٍ ولكنه يخاف على لقمة عيشه في بلاد الاحتلال البريطاني، يخاف صلاح على أمواله بينما الناس تسعى لمقاطعة كل ما يمكن أن يصب في مصلحة دعم كيان صهيوني، يخاف صلاح ككل جبان يخاف قول أي كلمة.
كل يوم
منذ بدايات عداد الموتى وأنا أجد نفسي أبكي كل صباح، أنام مكرهاً وأنا أتابع التطورات وأستيقظ بلا أمل لتعنت الجميع في منح فلسطين أي حق، لرفضهم جميعاً أن يدافع مواطن عن موتاه وشهداء وطنه، لرفضهم أن يرفض الفلسطيني أن يموت بلا كرامة. كل يوم أذهب إلى العمل ولا أحد من زملائي يريد الحديث معي فيما يحدث لأن كلهم وُلدوا ووجدوا هذا أمراً طبيعياً، يقولون ما الجديد؟ لا أحد منهم يكلف نفسه عناء متابعة ما يحدث خوفاً على حالتهم النفسية ولأن المتابعة لا تفيد، أما أنا فعيوني متورمة من بكاءٍ بلا طائل وصدري محترق بسبب غضب بلا فائدة.
هذا الحديث لا يُقدم أي رؤى أو تحليلات سياسية فهذه وظيفة ضيوف البث المباشر في كل مكان، ولكنني أكتب من منطلق التوثيق، حتى لا أنسى أن عدوي إسرائيلي يقتل أخي في غزة ليسكن مكانه، يستولى على أرضي العربية الفلسطينية ويسرقها أمام عيني ورغم أنها أرضي إلا أن لا أحد ينجدني ولا ينجده، اكتب لأن اللص الذي سرق النوم من عيني، واغتال أطفال فلسطين لص غادر ما أن ينتهي من فعلته سيأكلنا كلنا ما دمنا نصمت ونمتنع عن الكلام، ولأن أمل دنقل قالها منذ سنوات كنا مغيبين فيها منهمكين كالثيران في ساقية أكل العيش، قال لنا لا تُصالح ولو منحوك الذهب
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.