قبل أسبوع من اليوم صرّح رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بأن العدوان على قطاع غزة "سيستغرق وقتاً"، وتوعد في كلمة ألقاها بـ "تغيير منطقة الشرق الأوسط"، وتغيير الشرق الأوسط أو الشرق الأوسط الجديد ليست عبارةً حديثة، إذ تعود الكثير من تفاصيله إلى المستشرق الأمريكي الصهيوني برنارد لويس، وخرائطه التي قسمت المنطقة، وهو ما عاد قبيل معركة "طوفان الأقصى"، مع إعلان عددٍ من الدول عن الممر الاقتصادي، والذي كان من المفترض أن يربط الهند بالإمارات ومن ثم السعودية، على أن تكون دولة الاحتلال هي صلة الوصل ما بين آسيا وأوروبا، طرفي هذا الطريق.
وما يعنينا بهذا الشرق المستجد أنه جاء في لحظة تغلي فيها المنطقة، وتشنّ فيه الطائرات الإسرائيلية عشرات الغارات على قطاع غزة، وارتقى على أثر هذا العدوان آلاف الفلسطينيين. وفيما يخص هذه الحرب بدأت دوائر صناعة القرار الإسرائيلي بالحديث عن المناطق الآمنة في جنوب قطاع غزة، في المقابل تعمل أذرع الاحتلال الدبلوماسية على الترويج لهذه الفكرة، وأنها خطوة لفتح ممرات آمنة عبر رفح إلى سيناء، رغم قيام الاحتلال بجرائم مروعة، استهدفت فيها طائراته مناطق الجنوب، كما استهدفت النازحين الذي اضطروا للانتقال من شمال القطاع إلى جنوبه.
دعم أمريكي غير منقطع
وفي سياق التهجير وأنه خطوة تستبق فيها سلطات الاحتلال أي عملٍ عسكري بريّ، أشارت العديد من المصادر إلى أن دولة الاحتلال تتلقى دعماً منقطع النظير من قبل الولايات المتحدة في هذه الحرب، من العتاد الحربي وصولاً إلى الدفع بأبرز قطع الأسطول الأمريكي إلى شرق المتوسط، مروراً بتبني البيت الأبيض رواية الاحتلال، مع ما كشفته الأيام من كذب هذه الرواية، ولكن اللافت هنا، أن البيت الأبيض هو الذي يشجع "إسرائيل" على المضيّ بالعملية البريّة، فقد قال بايدن لشبكة CBS الأمريكيّة إن "دخول إسرائيل إلى غزة والقضاء على متطرفي حماس مطلب ضروري"، ثم تبعه بتصريحات أُخرى، بأنه لا يدعو "إسرائيل" إلى احتلال غزة، بل إلى القضاء على المقاومة فقط.
الهجرة إلى الجنوب أم سيناء؟!
ومع استمرار منع المساعدات الغذائية من الدخول إلى غزة، ودعوات جيش الاحتلال الإسرائيلي المتكررة لضرورة نزوح الفلسطينيين إلى جنوب قطاع غزة، وحديث دبلوماسيين إسرائيليين بأن نموذج ما قام به الأسد في سوريا يمكن أن يتكرر في غزة، تؤكد هذه المعطيات أن الهدف الحقيقي لما يسعى إليه الاحتلال ومن خلفه الولايات هو إنهاء كامل للحالة التي تمثلها المقاومة في قطاع غزة، وتحويل الكتلة البشرية الفلسطينية للإقامة في شمال سيناء، على أن يحدد شكل إدارة هذه الكتلة لاحقاً، إذ لا تملك الأطراف حالياً إجابة واضحة عن شكلها وخلفيتها، ولكنها بحسب التقارير الغربية بعيدة عن الأيديولوجيات التي تحملها فصائل المقاومة الفلسطينية، في حال قدرتها على تحقيق هذا الهدف.
أهداف متقاطعة مع إسرائيل
بناءً على التوطئة السابقة، وتشابك الكثير من العوامل في هذه القضية، ومن خلال استقراء العديد من التحليلات العربية والغربية حول أهداف الاحتلال من محاولة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
- أعطى الحديث عن مشروع التهجير وإنهاء الشرق الأوسط الذي نعرفه حالياً، دلالةً بأن القضاء على المقاومة في غزة وتغيير الحيز الديموغرافي للغزيين قضية قد خُطط لها سابقاً، وأن تشكيل "الشرق الأوسط الجديد" سيحاول إنهاء القطاع بمنظومته الأيديولوجية والفكرية والسكانية الحالية، ما يعني استكمالاً مباشراً لصفقة القرن، وهو وبحسب الكثير من متابعي الشأن الفلسطيني، ما دفع المقاومة الفلسطينية إلى أخذ زمام المبادرة وإطلاق معركة "طوفان الأقصى"، فإنهاء حالة المقاومة في القطاع يُعد لها، على أن تتم بغطاء عربي من قبل الدول المطبعة، وبعض الدول التي كانت قاب قوسين أو أدنى من التطبيع، قبل أن تشتعل الأوضاع مع الاحتلال، وهي الشرارة التي كان من المفترض أن تكون فاتحة لهذه التغييرات الكبرى في المنطقة.
- من البديهي القول إن "إسرائيل" هي الشرطي الذي تسوس فيه الولايات المتحدة المنطقة، ومع اضطرار الأخيرة أن تتراجع في منطقتنا على حساب جبهات أخرى، وفي مقدمتها بحر الصين الجنوبي والحرب الروسية – الأوكرانية، وجدت الولايات المتحدة أن خسارة الاحتلال لهذه الحرب انكسار لهذه المنظومة الغربية التي تحاول الحفاظ على هيمنتها على العالم، لذلك تسعى بكل ما تستطيع لكي يخرج الاحتلال بانتصار ولو على حساب المدنيين، إذ نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مسؤولين دفاعيين أميركيين أن البنتاغون كلّف قرابة 2000 جندي بالاستعداد لمهمة محتملة لدعم إسرائيل، فيما نفى مسؤول من الوزارة ذلك، وهي نقطة في سلسلة من الخطوات تأتي بعد حشد كبير ودعم الاحتلال بالذخيرة وغير ذلك، لذلك فمن غير المستبعد إمكانية المشاركة الفعلية في الحرب البريّة القادمة، إن كان بالإدارة أو عبر فرق خاصة تحت ذرائع تحرير الرهائن.
- كشفت صحفٌ غربية أن وزير الخارجية الأمريكي بلنكين لم يستطع إقناع الدول العربية بفكرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وفي مقدمة هذه الدول مصر، ويأتي رفض مصر على خلفية عددٍ من الأسباب، أولها عدم قدرة مصر على تحمل التكلفة الاقتصادية لانتقال هذه الأعداد الضخمة، أمام تردي الاقتصاد المصري، وإمكانية تحول هذا التهجير إلى بقاء يمكن أن يكون دائماً.
- والثاني خوف مصر من فقدان ورقة استراتيجية تؤكد قوتها ونفوذها في المنطقة، فقد دأب السيسي على التوسط بين المقاومة والاحتلال، واستضافة الأطراف الفلسطينية للتباحث وغيرها، ما يعني أن فقدان هذه الورقة سيؤدي إلى مزيدٍ من تراجع موقع مصر وقدراتها على التأثير في الإقليم. وثالث هذه الأسباب وهو يتعلق بالنقاط القادمة، عزلها عن مشروع الممرّ الاقتصادي الذي يربط ما بين الهند وأوروبا، ما يعني تضاؤل أهمية قناة السويس في التجارة العالمية.
- أما أمريكياً، فإصرارها على اجتياح غزة يأتي لتمرير مشروع الممر الاقتصادي، ودور هذا المشروع مزاحمة الصين، عبر دعم التجارة مع الهند، وهو المشروع الذي تروج له الإمارات بشكل كبير، وتم استثناء منه كل من مصر وتركيا، وتريد له الولايات المتحدة أن يكون بديلاً عن طريق الحرير الصيني.
ومع اقتراب الانتخابات الأمريكيّة يسخّر بايدن الحرب لتحقيق مكاسب انتخابية وجذب المسيحية الصهيونية وجمهورها، مع التأكيد أن انتصار المقاومة سيؤدي إلى ترسيخ نموذج تجلى في أفغانستان بهزيمة الولايات المتحدة، ويؤكد تراجع الولايات المتحدة في الإقليم، مقابل بزوغ قوى أخرى لا تريد لهم الولايات المتحدة أن يستفردوا بالمنطقة، وخاصة إيران وتركيا.
أخيراً، وبعيداً عن كل هذه التفاصيل، فإن الفلسطينيين الذين ذاقوا مرارات النزوح، في النكبة والنكسة وغيرها، لن يقبلوا بالخروج من منازلهم، وأن الاحتلال بإصراره على اجتياح القطاع، مقدمٌ على مغامرة غير محسوبة الحساب، وهي أشبه بالمقامرة، في مقابل إصرار المقاومة على الانتصار، ما يعني أن جيش الاحتلال لن يواجه عناصر المقاومة فقط، بل سيواجه أكثر من مليوني فلسطيني، يتوقون للعودة إلى قراهم ومدنهم بعد فراقهم 75 عاماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.