ثلاث مسائل مهمة يجب التركيز عليها قبل مناقشة هذا الموضوع. عملية طوفان الأقصى التي شنّتها كتائب القسام صباح يوم 7 أكتوبر كانت في سياق الدفاع عن الأرض المحتلة، وهي ردة فعل طبيعية من المقاومة الفلسطينية ضد احتلال غير طبيعي ويمارس جرائمه، كما أن طبيعة الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي يمكن فهمه انطلاقاً من إعادة النظر في المسائل العالقة في هذا النزاع:
كتهجير الفلسطينيين من أرضهم، وسيطرة قوات الاحتلال على المصادر المائية، والسيادة المطلقة على الأرض، والإصرار لجعل القدس عاصمة للدولة اليهودية، ومحاولة إضفاء الشرعية الدولية على هذا القرار الذي انتهى سياسياً في الإدارة الأمريكية السابقة، وبعد ذلك تأتي إشكالية بناء المستوطنات اليهودية مقابل نزوح الفلسطينيين. وبهذا تتضح الأبعاد الاستعمارية لحقيقة هذا المشروع الاستيطاني الذي يستمر وجوده في الشرق الأوسط وفوق الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ ومع ذلك فإن الاحتلال يتخذ سياسة استعمارية تتوافق مع نظام الفصل العنصري الذي بات واضحاً أمام المجتمع الدولي، ومنتقَداً في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية التي كشفت للعالم ماهية هذا النظام، والسياسة العنصرية المُتمثلة بعزل الفلسطينيين وحجزهم بين 3 معسكرات احتلالية: الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، وتمثل هذه المعسكرات الثلاثة السجن الجماعي للفلسطينيين، كما تؤكد سياسة الاحتلال حقيقة نظام الأبارتايد الممنهج والمؤسسي.
بعد هذا التمهيد يمكن مناقشة ردود الأفعال الدولية التي جاءت بعد تنفيذ كتائب عز الدين القسام لعملية "طوفان الأقصى"، وليس جديداً مساندة الإدارة الأمريكية للاحتلال الإسرائيلي والتضامن سياسياً وعسكرياً بهدف لفت انتباه العالم بأسره ومساندة الاحتلال الإسرائيلي، واستطاعت إدارة بايدن استمالة الدول الأوروبية وخلق موقف سياسي عالمي موحد لمساندة الاحتلال الإسرائيلي، وبهذا أخذت إسرائيل الضوء الأخضر من الإدارة الأمريكية والدول الغربية، فيما يُعرف "بحق الدفاع عن النفس"، وكأن إدارة بايدن قد سمحت لحكومة يمينية متطرفة -تشكلت داخل احتلال استيطاني متطرف هو الآخر- بأن تقوم بإبادة الفلسطينيين بقطاع غزة، بعدما نجحت باستمالة الساسة الغربيين والإدارة الأمريكية على الصعيد السياسي ونشاهدها ترتكب جرائم ضد الإنسانية بحق سكان غزة. والتهمة الوحيدة التي يتعذر بها الموقف الغربي هم الأسرى الذين قبضت عليهم كتائب القسام أثناء عملية طوفان الأقصى. وهنا أشعل الإعلام الغربي حملته ضد حماس، كما استغلت حكومة الاحتلال هذه الحملة السياسية لتصفية حساباتها مع حماس، وإبادة قطاع غزة بأكمله باسم محاربة الإرهاب.
والإرهاب من وجهة النظر السياسية الغربية يتمثل بحركة حماس، التي تعتبر حركة مقاومة للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. هم لاينظرون إلى المشروع الاستيطاني للاحتلال الإسرائيلي والجرائم الإنسانية الفظيعة التي ارتكبوها بحق الشعب الفلسطيني على أنها إرهاب؛ بينما مقاومة حماس للاحتلال الإسرائيلي هي التي يمكن وصفها من وجهة النظر الغربية على أنها إرهاب، فهم يتعاملون مع إسرائيل كدولة ذات سيادة، ظهرت بعام 1948 ولديها عضوية بمنظمة الأمم المتحدة وتعمل أجهزتها بنظام ديمقراطي ولديها سلطة شرعية وشعب، كما أن لها حدوداً جغرافية بينها وبين الدول المجاورة، وبينها وبين الدول المجاورة اتفاقيات سلام قد بدأت بتفاوضات كامب ديفيد، والتي بموجبها عقد السادات مع إسرائيل اتفاقية السلام بتاريخ 1979، ثم جاءت بعده الأردن بتاريخ 1994 ومن هذه الفلسفة الاستعمارية يمكن استيعاب وصف الغرب بحركة حماس على أنها حركة إرهابية، دون إعادة النظر في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ردود أفعال الاحتلال بعد عملية طوفان الأقصى
اختراق جنود كتائب القسام لغلاف غزة لم يسبق له مثيل في تاريخ الصراع مع الاحتلال. فلم تعد المقاومة تكتفي بإطلاق الصواريخ فحسب إلى الداخل المحتل، بل المقاومة نقلت الصراع لمنطقة العدو وفتحت المجال لمواجهة العدو ميدانياُ والتوغل داخل قواعده العسكرية وسجن جنودهم، وهذا ما قامت به كتائب القسام بعملية طوفان الأقصى، التي انتهت بأسر الجنود الإسرائليين وحصيلة وفيات مرتفعة بصفوف الاحتلال الإسرائيلي. كتائب القسام قامت بهذه العملية بصفة أفراد يدافعون عن أرض أجدادهم التي سلبها منهم المستوطنون في فترات سابقة، والآن عادوا في هذه العملية وقتلوا جنود الاحتلال وأسروهم وأخذوا معهم المستوطنين. فعلوا كل ذلك وهم أفراد يقاومون الاحتلال. وهذا الفعل هو الذي أثار حفيظة حكومة نتنياهو المتطرفة، كما أن العملية كانت مفاجأة على المستوى العربي والعالمي ولفتت الأنظار، ليتجدد النقاش وتعود القضية الفلسطينية مرة أخرى. يتساءلون: كيف لأفراد مقاومة يخترقون بالطائرات الشراعية غلاف غزة ويغيرون على مراكز جيش من أقوى جيوش العالم؟ بهذا السؤال أصبحت حكومة نتنياهو بموقف صعب، ولم يعد أمامهم من خيارات سياسية إلا حفظ ماء الوجه ورد الاعتبار، وذلك لا يكون إلا بدفع الثمن مضاعفاً من المدنيين الفلسطينيين بقطاع غزة بحجة تدمير حماس.
حكومة نتنياهو لم تخفِ عن العالم الدولي ردود أفعالها بعد عملية طوفان الأقصى؛ لذا أخذت الضوء الأخضر من بايدن، وبمساندة من الدول الأوروبية. وهذا ما شجّع وزير الدفاع الإسرائيلي على وصف سكان غزة بحيوانات والواقع السياسي الذي يعيشه المواطن الفلسطيني من وجهة نظر الاحتلال يؤكد هذا الوصف الذي أطلقه وزير الدفاع الإسرائيلي، فهم يعاملون الفلسطينيين وفقاً لهذه الرؤية، لذا يحاصرونهم بالأرض المحتلة في عام 1967، ويقسمونهم ضمن معسكرات ومعتقلات كبيرة، ويتحكمون بحرياتهم وتنقلاتهم، ويقررون السلع التي تصل إليهم ويعاملونهم بهذه الإجراءات وهذا ما يؤكد وصف وزير الدفاع لهم، فهو يعتقد بذلك الوصف ويعايشه بصورة عملية. فليس مستغرباً أن يحاصر قطاع غزة حصاراً شاملاً ويقطع عنهم الطعام والماء والطاقة. والذي شجعه على مخالفة القانون الدولي العام الضوء الأخضر الأمريكي الذي أعطاه هذه الشجاعة لارتكاب جريمة الإبادة المصنفة ضد الإنسانية، وبهذا التصريح وهذه الإجراءات يعلن الاحتلال الإسرائيلي عدم خوفه من التعدي على الإنسان والقانون الدولي، ويستمر الاحتلال بارتكاب الجرائم في غزة.
ارتكاب مثل هذه الجرائم لم يعد متماشياً مع الأعراف الدولية والمعاهدات والقوانين التي تمت صياغتها بعد الحرب العالمية الثانية كما أن حقوق الإنسان والمواثيق الدولية لم تعد تسمح بارتكاب مثل هذه الجرائم في الحروب، هذا من وجهة النظر السياسية القانونية، وأيضاً عدم خوف حكومة نتنياهو من ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية يؤكد آلية القوانين التي يتم استخدامها لصالح طرف واحد وليس لصالح الجميع، وهذا يؤكد عدم تجاوز العالم الاستعمار، فنحن نشاهده في الاحتلال الإسرائيلي ضمن القضية الفلسطينية التي تعتبر آخر ملف استعماري في المنطقة لم يتم التعامل معه حتى هذه اللحظة.
وبالإضافة لذلك، يواصل الاحتلال محاصرة قطاع غزة ويمنع الماء والطعام والطاقة، ويقصف المنشآت الصحية والمؤسسات التعليمية ويستهدف دور العبادة، ومثل هذه الأفعال تعكس حقيقة الاحتلال الإسرائيلي وفساده في المنطقة. كما أن التصريحات التي أتت بعد عملية طوفان الأقصى تؤكد الجانب الأخلاقي الذي ينطلق منه ساسة الاحتلال الإسرائيلي، والكلمة التي ألقتها النائبة البرلمانية بالكنيست تصف بدقة المرجعيات الأخلاقية التي ينطلق منها هؤلاء المتوحشون. فهي تعلنها صراحة بأن الحل في إلقاء القنبلة النووية على قطاع غزة، الأخلاق السياسية غائبة تماماً عند الساسة اليهود، كما أن مثل هذه التصريحات تصف بدقة طبيعة البشر الذين يحتلون الأراضي الفلسطينية ويرتكبون أبشع الجرائم في حق الفلسطينيين، وبعدها ينظرون عن الأخلاق ويصفون حماس بالمنظمة الإرهابية. والحقيقة، ومن وجهة نظرنا، الإرهاب الحقيقي هو الاحتلال الإسرائيلي ومن يساندهم.
ما بعد طوفان الأقصى والسياسة الاستعمارية الغربية الجديدة
سوف يتذكر الاحتلال وقادته وساسته والمستوطنون صباح يوم طوفان الأقصى، الذي أصبح جزءاً من تاريخهم الذي لا يُنسى. كما سيفهم العالم بأسره أن هذه الأرض للشعب الفلسطيني الذي لن يتخلى عنها كما أنه مستعد للموت من أجل استعادتها من العدو. أكتب ذلك في ذكرى هذا اليوم المهم في تاريخ المقاومة الفلسطينية، والخسائر التي ألحقتها بالاحتلال. فلم تعد المقاومة قبل طوفان الأقصى هي نفسها بعد الطوفان، فقد انتقلت المعركة إلى داخل معسكرات الاحتلال وبقلب المستوطنات حتى بلغت مدى الصواريخ أعماق الداخل المحتل.
في السابق تابعنا القضايا المتعلقة بملفات الاستعمار، وتحديداً الاستعمار الفرنسي للقارة الأفريقية. وسياسة الاستعمار واحدة ولم تسلم القارة الآسيوية أيضاً من الاستعمار، ولسنا بصدد مناقشة الاستعمار من الناحية التاريخية، بل نحن نناقش السياسة الاستعمارية الغربية. وسياسة الاستعمار مبنية على مؤسسات ثابتة على مر التاريخ، ومن بين تلك المؤسسات تأخذ المؤسسة العسكرية أهمية لدفع السياسة الاستعمارية ونشرها، ومع هذه المؤسسة تأتي المؤسسة الاستشراقية التي تعمل على تعزيز المعرفة وتماسك السياسة الاستعمارية، ومع هاتين المؤسستين تدرج إليهما المؤسسة المالية التي تضاعف الاقتصاد الذي يصب لصالح تعزيز السياسة الاستعمارية وانتشارها وتوسعها.
في القرن الحالي لم يعد للاستعمار العسكري أي وجود، وتحديداً بعدما ظهرت الدراسات الأكاديمية المتعلقة بنقد الاستعمار وأعمال إدوارد سعيد رائدة في النظرية ما بعد الكولونيالية التي انتقدت الاستعمار نقداً فلسفياً وسياسياً له تأصيل معرفي عميق ومن داخل الثقافة الغربية، وقد فتح إدوارد سعيد باباً من أبواب نقد السياسة الاستعمارية، وانتهج هومي مساراً مشابهاً لهذا الاتجاه مع التوقف عند بعض القضايا وإعادة النظر فيها كالتهجين، وعلى نفس المفهوم قامت غايا بتفكيك الاستعمار البريطاني وتأثيره على المجتمع الهندي انطلاقاً من رؤية تفكيكية دريدية من بنية الخطاب الاستعماري، وانتهت إلى الآخر ضمن خطاب الاستعمار الغربي، ولكن على مر التاريخ جوهر الفكر الاستعماري الغربي لم يتغير مطلقاً، وهناك مؤشرات واضحة يمكن استيعابها في الخطاب الغربي والسياسة الغربية، ومنهما يتضح الاستعمار.
ومواقف الدول الأوروبية في أعقاب عملية طوفان الأقصى يمكن قراءتها من منظور متعلق بما بعد الاستعمار ونقد السياسة الغربية. كما يمكن فهمها انطلاقاً من الهيمنة الغربية والسياسة الاستعمارية الغربية الجديدة التي لم تعد تخفيها الدول الغربية، وتحديداً في فلسطين. فقد أظهرت عملية طوفان الأقصى وما تبعها من ردود فعل دولية سياسة استعمارية جديدة، وتلك السياسة الاستعمارية الجديدة عكست المبادئ التي كان الغرب في فترات سابقة يقوم بتصديرها ضمن خطابات سياسية على المسرح العالمي، كان جوهرها حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية واحترام القانون الدولي. وجميع ذلك يمكن إرجاعه إلى عصر التنوير والمفاهيم التي ترسخت وقتئذ وأصبحت مركزية في سياسة الغرب، وقد صاحب تلك النزعة الإنسانية المتمركزة على الإنسان نزعة استعمارية تميّز بين القيم التي أنتجها فلاسفة التنوير الأوروبي.
الديمقراطية وما تضمنه من حقوق وواجبات للفرد تجاه دولته تكون حصراً على وحدة جغرافية وعرق معين، أي ذات مساحة جغرافية وحدود مكانية، لذا شاهدنا سياسة مختلفة عندما تعلق الأمر بقضية طوفان الأقصى. أغلب الدول الأوروبية التي قدمت نفسها على المسرح العالمي بأنها دول علمانية وتحترم التعددية في النظام الديمقراطي واحترام حرية الفرد، شاهدناها قد تحولت من دول ديمقراطية لدول فاشية، تقوم بقمع أصوات الأقليات في حق التظاهر، والسبب هو الخلاف بين المسألة المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي ومساندة المقاومة الفلسطينية. لذا حظرت فرنسا جميع المظاهرات الداعمة لفلسطين، وفرضت عقوبة السجن لمدة 5 سنوات لمن يتعاطف مع سكان قطاع غزة. كما أوجدت عقوبة السجن لمدة 7 سنوات لمن يبث خطاباً استفزازياً. وبريطانيا استخدمت ذات السياسة، حيث حظرت المظاهرات وقامت بتجريم رفع العلم الفلسطيني فوق أراضيها ومحاسبة الداعمين لحركة حماس. والنمسا وألمانيا استخدمتا ذات السياسة.
ليس جديداً على مثل هذه الدول أن تمارس مثل هذه السياسات الفاشية؛ فجميع هذه الدول لها تاريخ طويل في الاستعمار وقمع حريات الشعوب، فمن الطبيعي أن تقوم بالتضامن مع الاحتلال الإسرائيلي، لأنها تتوافق معه في مبادئ السياسة الاستعمارية، ولهذا السبب شاهدناها تمارس سياسة استعمارية جديدة على شعوب الأقليات المسلمة المدافعة عن حرية وحق الشعب الفلسطيني بالتصدي للاحتلال.
ورداً على السؤال المطروح لا يمكن محاسبة إسرائيل على جرائمها في قطاع غزة، لأن المحاسبة نوع من العقاب الذي يقتضي العدل ورفع الظلم عن المظلومين، والعالم الذي نعيش فيه الآن تهيمن عليه دول ظالمة واستعمارية وتنطلق من فلسفة القوة النتشوية ومفهوم البقاء للأصلح الدارويني، وتغض الطرف عن معاقبة الاحتلال الإسرائيلي على الجرائم التي ارتكبها بفلسطين وبقطاع غزة، وعمليات الاحتلال التي أجبرت الشعب على النزوح ونظام الفصل العنصري غير الإنساني، ولهذا السبب لن تتم محاسبة إسرائيل على جرائمها لأن الدول الغربية برمتها دول استعمارية ومتواطئة مع هذا الاستعمار، وشريك أساسي لهم في جرائمهم ولا يقدرون على محاسبة إسرائيل. وهذا ما يعطي الشرعية الأخلاقية والسياسية والقانونية بأن تدافع فلسطين عن نفسها وأدوات الدفاع لا تكون إلا بالمقاومة الثائرة على الاستعمار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.