ربما يرى البعض أنني يجب أن أكون آخر من يتكلم عن الحريات والديمقراطية كمواطن يعيش في بلاد تسحقها يد الشمولية والرجعية بالأساس، ولكن على الأقل أنا مدرك أنني لست حراً بالكامل، إذ أرى قيودي وأتعامل معها بما يتيسر لي، أما عن الآخر والذي توفرت له رفاهية اقتصادية وسياسية واجتماعية لا أنا ولا مواطني بلادي نملك نصفها، مصيبته أكبر، فهو لا يدرك أنه مغسول الدماغ، موهوم بحريته التي لا يملكها، فيصبح سهل التلاعب وتشكيله من قِبل سياسيين متطرفين، وإعلام غارق في البروباغندا.
ذات يوم قال الأديب الإنجليزي (جورج أورويل) عن الحرية: "لو أن الحرية تعني شيئاً، فهو أن تخبر الناس بما لا يريدون سماعه".
وبما أني اعتدت دائماً أن أسمع من السيد الغربي الأبيض ما لا أحب سماعه طيلة حياتي فيما يخص كل شيء.. عن حياتي، وديني، وحكومة بلادي، وحتى ما يجب أن أقول ولا أقول باسم الحرية الغربية المزعومة.
يأتي دوري اليوم لأقول ما لا يحب أن يسمعه بعض المواطنين الغربيين حاملي مشعل التقدمية ورايات الإنسانية والمُبشرين بيوتوبيا الحقوق الإنسانية.
عزيزي المواطن الغربي المتعاطف مع الاحتلال الإسرائيلي..
سأتظاهر أني أتفهم ردة فعلك تجاه ما رأيته في الأيام الأخيرة الماضية، إذ أعلم أن عقوداً وعقوداً متراكمة من التعرض للإعلام "الليبرالي الحقوقي" المتظاهر بالحياد والنزاهة والتعاطف مع الضحية، سيجعل النفور والغضب يشتعلان بداخلك عندما ترى ضحايا "مدنيين" من دولة "صديقة" لدولتك لا تُذكر في إعلامك أو على ألسن حكامك إلا بكل خير؛ نظراً لما يتشاركونه من سمات استعمارية، بالطبع لن يفرز وعيك إلا الغضب والنفور من فاعل هذا الذي تدعيه أنت "إرهاب"، وبالتعريف الغربي للإرهاب أو ليست هذا ما تعيشه غزة؛ بل فلسطين كلها منذ عقود!. لماذا لم نرَ ردة الفعل التي أتفق معك أنها طبيعية حيال العنف وسفك الدماء وقتل الأبرياء، لذ أعتقد أننا يجب أن نعود للبدهيات، إذ يبدو أن فرط التحضر يقلل من الإنسانية، ولنعد إلى التعريفات الأساسية لعدة دقائق لنعرف لماذا تُسال الدماء بالأساس؟
أتعرف ما معنى الاحتلال أصلاً؟ بالطبع لا. لطالما كان أجدادك في الأصل ولقرون مُستعْمِرين لعقود طويلة وليسوا مُستعْمَرين.
هل أنت مُدرك أن إسرائيل دولة محتلة، عنصرية، لا تأبه للقانون الدولي، ساعدت حكوماتك الاستعمارية السابقة والحالية في إقامتها وبقائها بالقوة وسط أرض لا يملكونها حتى وإن ادعوا أنهم عاشوا فيها من قبل، ولذلك يأخذهم الغرور بأن ليوهموا بأن لهم الحق في أخذها لأنفسهم بالقوة العسكرية وسحق نسيجها السكاني العربي ذي الأغلبية.
المشكلة اليوم بأن القتل وسفك الدماء أمر إجرامي في كل الأحوال، وأعلم أنك بالفعل تدين قتل الفلسطينيين على يد الاحتلال أيضاً، وسأوافقك الرأي، ولكنك عزيزي ستلخص كل العبث في العالم عندما تدين قتل الفلسطينيين العُزل المدنيين على يد (جيش احتلال نظامي) وكفى؛ بينما سيرتدي المسؤولون في حكوماتك بدلهم الرسمية الأنيقة وسيطلون من القصور الرئاسية الفخمة ليعلنوا دعمهم المادي قبل المعنوي لسلطة الاحتلال لسحق ما تبقى من فلسطين، وحينها ستصبح كأنك تخبرني بأن السرقة أمر سيئ وتهز رأسك في أسف ثم تترك السارق ينهي سرقته لي! فيما يفيد "تعاطفك" إذاً؟ إذ أردت مساعدتي في إيقاف اللص أعد لي مسروقاتي، عن طريق اختيار حكومات ومؤسسات تعي فعلاً بحقوق الإنسان وحرياته.
بدلاً من أن تدع يبلغ الإجرام والتبجح بحكوماتك المتطرفة مبلغه بأن يسارع قادتك وحكامك في التصريح بأنه من حق هذا السارق أن يدافع عن سرقته، أي منطق متبجح جاهل ظالم هذا؟ أتعجب كيف يمكن أن يظن الإنسان في بعض البلاد الغربية نفسه حراً حين ينتخب هؤلاء المنافقون حكاماً تحت ستار "الديمقراطية"!
إذا كان لمقاومة فعل إرهابي واحد حقاً فهي إرهاب رؤيتك المزيفة والمركبة عن العالم، فكيف من يبحث عن الحياة عن طريق النضال أن يصبح إرهابياً، بينما حكامك الأفاضل الذي هم بالأساس أصدقاء وأحباب هذا اللص الذي سرقني واجتاحني واستباحني بكل استهانة فقط؛ لأنهم يملكون القوة، هم قادة ورمز الديمقراطية والحرية في العالم.
"هو عبد يعيش بمظاهر الحرية، والذي هو أسوأ من أكثر العبوديات قسوةً".
فهل أدركت الآن عزيزي المواطن الغربي أن الحقيقة في عالم ظالم كهذا لا تقوم إلا بالقوة؟ أوَليست القوة في يد حكَامك -الذين صعدّتهم أنت لكراسي الحكم- هي ما يسحقني به، ويتبجح باحتلال صريح، بينما لم يحرك قادتك وحكامك ساكناً حيال وضعي حتى اليوم واكتفوا بهزّات الرؤوس الآسفة؟ أعد معي تعريفات النفاق والقتل البطيء للقضايا مرة ثانية من فضلك.
هل رأيت خلال السبعين عاماً الماضية أية مشاهد مماثلة لجرائم من "جيش نظامي متخم بالعتاد" ضد آلاف وآلاف المدنيين العزل الفلسطينيين؟ لا؟ بالطبع لم ترى الكثير حتى ولو تسرب إليك البعض. هل تعلم لماذا لم ترَ؟ لأن إعلامك يقع تحت سيطرة أصدقاء القاتل، فلن ترى الحقيقة أبداً إذ لم تتتعب أن نفسك قليلاً، وإلا ستظل في ضلالك على الأريكة ترى المقاوم الفلسطيني بغيضاً مجرماً سفاحاً، بينما المقاوم الأوكراني شجاع بطل ذو حق. لست أنا من صنعت ذلك الإعلام فكما تعلم القمع عندي، أنت وحدك من صنعت لهذا الإعلام مصداقية ولم ترفع صوتك الحقيقي النابع من ضميرك.
إعلامك يريد أن يضمن تأييدك أنت لأجنداته ومصالحه، هو يستخدم تأييدك كوقود لآلة الحرب والدمار والشمولية الدائرة في الخفاء تحت شعارات كاذبة تخبرك أن مثلاً: إسرائيل تملك الحق في "الدفاع عن نفسها" ضد ضحاياها! ضحاياها الذين هم مُحتّلة بلادهم ومقتول أجدادهم وآباؤهم وأخواتهم وأطفالهم، هل رأيت في حياتك مُعتدياً يريد الدفاع عن نفسه من المُعتدى عليه؟ كرر السؤال الأخير مرة أخرى ثلاث مرات على الأقل لتعي معناه بلا غضب أو انفعال. أنت وقود هذا الجنون والعبث يا عزيزي.
لديَّ سؤال مهم وأمين سأطرحه في نهاية رسالتي لك لربما تتسنى لك فرصة في مراجعة رأيك، فلربما اقتنعت: هل تساءلت ما الذي يجعل غالبية شعب عربي بأكمله وليس فلسطينياً فقط، أن يعلن كل هذا التأييد للشعب الفلسطيني على صفحات التواصل الاجتماعي حيال مشاهد إعلامك التي أبرزت (سفك الدماء وقتل الأبرياء المدنيين العُزل) بكل انفتاح؟ برغم أن التحقيقات اليوم أبرزت كذب هذه الادعاءات وعلى رأسها سحب البيت الأبيض لتصريحات ذبح الأطفال الإسرائيليين على يد المقاومة.
ألم تدرك يا عزيزي أنك لست حراً ترى فقط بعين حكوماتك، ورأيتنا قتلة ولسنا أصحاب حق، بينما أقسم أنه لا يمكن لشعوب العربية التي تعيش تحت القمع والاستبداد أن تقف مع القاتل مثلك حتى ولو كانت قضايا لا تخصهم، ولن نذهب بعيداً فحرب أوكرانيا خير مثال.
أتعلم ربما لأننا نعرف الظلم جيداً فاعتدنا رغم القمع أن ندعم الحق دائماً، فلك أن تتخيل معي التالي: متوسط عمرك 40 عاماً مثلاً، كل يوم في نصفهم الأخير على الأقل كنت تشهد سفك دماء أهلك ومواطنيك وبني جلدتك في فلسطين. دم الفلسطيني البريء المدني، الأعزل أريق أنهاراً وسط صمت أنظمتك. أنا أعيش مع دم أخوتي كل يوم، وأراهم يقتلون ويسحلون ويقمعون كل يوم. على رؤوسهم المسحوقة أحذية أفراد جيش الاحتلال كل يوم.
جارتي المرأة المسالمة تسحل وتضرب وتُعرى كل يوم. أطفالي يموتون في مهادهم كل يوم بلا رحمة أو ذرة شفقة، العالم كله يشاهدني أموتاً ولا يحاكم قاتلي. غيّب قادتك العدالة وقتلوا التعاطف منذ 7 عقود وأكثر، من يتحمل المسؤولية في مأساتي؟ آسف ولكنني مضطر أن أقول الحقيقة: الغرب المؤيد لسرقة أرضي وقتلي، ثم أنت بصمتك وتخاذلك أمام قياداتك المنحازة المنافقة، أعتقد هنا سأسمح لك أن تسأل نفسك من منا يدعم الإرهاب حقاً؟
سادتك وحكامك وإعلاميوك يكتفون بهزة رأس آسفة وأمنية "بإصلاح الأوضاع" فقط. عزيزي الغربي المتعاطف مع ضحايا إسرائيل أنا وشعبي نموت كل يوم منذ 75 عاماً وأنت تشيح بوجهك عن الحقيقة، وأنا لا أطلب التعاطف، بل أطلب أن تطلب حريتك إذا كنت جاداً في البحث عنها، ولعلك حينها ستعرف البديهيات ولن تستغرب دعمنا لفلسطين ولمقاومتها.
فقط ابذل القليل من الجهد لأجل كسب حريتك بحق، وانظر للحقيقة المجردة بلا خوف وابتزاز من إعلامك وسادتك وأصدقائهم المجرمين الحقيقيين في هذه الحرب، انظر بتمعن لهذا الاحتلال السافر الذي تحميه أكبر دول العالم بلا أي حياء، الاحتلال الذي حوَّل غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، الاحتلال الذي قتل حتى اليوم آلافاً وآلافاً من العرب بكل تبجح.
فربما قد ترى في يوم الحقيقة، وتعلم أن ما يفعله شعبنا ما هو إلا مقاومة ضد احتلال يداوم على سفك دماء أهاليهم منذ عقود.
في النهاية.. سأختم بجملة أخرى لجورج أورويل، لعلها تقرب إلى ذهنك صورتك الحقيقية في عيني الآن: "هو عبد يعيش بمظاهر الحرية، والذي هو أسوأ من أكثر العبوديات قسوةً".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.