لم أجد عنواناً يليق بالأحداث الجارية أفضل من هذا، ربما لأنني أرى أن هذا الصمت الوحيد هو الذي يستدعي القلق بشأنه!
نعم، هذا هو الصمت الوحيد الذي يجعلك في حيرة من أمرك؛ لكون الصمت في حد ذاته مسألة يلجأ إليها البعض لتجنب الصداع، لكن في المشهد الحالي فإن الصمت هو العقاب الوحيد للجُبناء.
دعني سريعاً أمر على مشهد الشاب الريفي البسيط، الذي يجد نفسه، بعد عناء طويل، في فريق المقاولون العرب، ومنه إلى قارة أوروبا مباشرة، شاب يُمسك المصحف في يده وتبدو عليه أمارات كثيرة للتشابه بيننا وبينه.
هذا الشاب يخرج باكياً، من نهائي بطولة دوري أبطال أوروبا في عام 2018 ويُصبح حديث الشعوب العربية التي وقفت ضد اللاعب الإسباني سيرجيو راموس بسبب فعلته به.
ثم فجأة؛ ينسلخ تماماً من كل ما كان، ينسلخ كأن الفيلم قد تبدّل بطله وتغيرت أحداثه، كأن الفيلم قد طرأت عليه تعديلات سخيفة لا أحد يفهمها وأصبح استكماله مضيعة للوقت.
هذه هي قصة محمد صلاح؛ بطل من ورق، بطلنا الذي لا يلعب من أجلنا، والأسطورة التي كُنا نحلم بها لكنها أصبحت تُشبه حدوداً أبعد منّا، أبعد بكثير.
أسطورة تشابهت معنا في كل شيء في بدايتها، ثم اختارت ألا تختار شيئاً، أسطورة تُعاقب نفسها بنفسها عن طريق الصمت، وحين تتحدث يكون الميعاد قد فات على حديثها، أو أن تتحدث فتنظر إليها قائلاً: "ليتك لم تتحدث قط".
وبدا ذلك واضحاً بسبب الموقف الأخير؛ موقف حي الشيخ جراح بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي كان يُعاني من سيطرة إسرائيلية كاملة على منازله.
بعد عدة أيام، من الضغط الشعبي الكبير؛ تحدث محمد صلاح بخطاب وبيان ساذج تماماً يُطالب فيه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بالتدخل لوقف ما يحدث، كأن بوريس جونسون هذا ليس هو ودولته أحد المشاركين في هذه المأساة وأحد الراضين عما يدور من أحداث!
تحدث، لكن بعد ضغط شعبي كبير، وبعد أن وصل الأمر إلى أن النجوم العرب قد تحدثوا وأدوا دورهم، وحتى الأفارقة والنجوم الذين لم يتوقع أي إنسان أن يتحدثوا، فعلوها، وكان هو ما زال يُجهز هذا الخطاب الدبلوماسي الذي ليس لنا ولا يدافع عنا في الأساس، خطاب رفع عتب ليس إلا.
أما في الوقت الراهن، فالوضع أسوأ بكثير بالنسبة له؛ لأن الأمر لم يعُد مجرد حادثة، بل هو كارثة إنسانية لا تمتُّ إلى العرب فقط، بل كل إنسان حر، إذ تحتشد دول بأسرها لارتكاب إبادة جماعية بحق أكثر من مليون إنسان، فقط لأنهم فلسطنيون، لذلك يصبح السكوت عنها بمثابة عار شديد على من يعرف الحقيقة و يتخاذل عن البوح بها.
نحن يا سادة، أمام حرب كبيرة تدور في العالم، ليست صراعاً بين قوتين أو جيشيين؛ وإنما حرب مقدسة لا لشيء سوى الحق، طرف يمتلك الحقيقة لكنه لا يمتلك دفاعاً قوياً في وجه عالم اعتاد أن يكبس على أنفاس المستضعفين، وطرف آخر لديه رواية مُلفقة وشهود زور، وهذا ما يفضله قضاة الأرض.
حرب، تدخل فيها الدُّخلاء، وحشد الطرف الآخر فيها كثيراً من الجنود الذين لا هُم من أرضه ولا من شعبه، لكنهم صدقوا هذه الرواية التي أفادت بأننا في مشاجرة؛ أنت تضربني وأنا أرد عليك، والعكس بالعكس.
حرب؛ لأول مرة يتحدث فيها نجوم العالم وينقسمون إلى فئة تُناصر وفئة تُعادي، فئة ترى الحقيقة لكنها تستنجد بالرواية المُزورة التي من أول صفحاتها ستعرف زيفها، وفئة تستنجد بالحقيقة والتاريخ والصور، بينما أصحاب الصمت هم أصحاب المصالح ينتظرون الفائز.
نعلم أنهم في النهاية لاعبو كرة قدم، لكن اليوم في عالم شديد التعقيد والتشابك، يمكن تحريك التاريخ بأبسط الوسائل، وإنَّ لاعب كرة قدم قد يملك من الأوراق ما لا يتوافر لنُخَب السياسة والثقافة والاقتصاد.
ودليل على ما أقول ما تفعله إسرائيل، إذ تدرك الأمر، وتعلم أن حرب اليوم ليست في ساحة المعركة فحسب، فنجد أنها رغم تفوقها العسكري تحشد قوتها الناعمة لتسويق مزاعمها وسردياته، فتستخدم هذا الفنان وذلك اللاعب وتدفع لذلك الصحفي وغيره ممن يمتلك شعبية وجماهيرية في جميع المجالات.
ولو كان محمد صلاح ذكياً بالقدر الكافي؛ لفهم أن هذه اللحظات، هذه اللحظات بالتحديد، هي من تصنع اسماً تدخل به التاريخ، وليست الجوائز التي تملأ خزانته، ولا الأرقام التي نستعرضها بعد كل مباراة له، ولا حتى عقود الرعاية.
هذه اللحظات بالتحديد، ستجعلك إما أسطورة شعبية، وإما أن تكون كالذين كانوا موهوبين لكنهم رحلوا مثلما جاؤوا!
استثمر محمد صلاح موهبته في كثير من النجاحات الرياضية، لكنه لم يستثمرها في تدوين اسمه بقوائم تاريخية لكرة القدم وللشعوب التي تُحب هذه المساحة وتُحولها إلى بوابة يدخلها منها الشخص إلى قلوبهم أو يخرج منها.
الكاتب البارع إذا تحدث في أمر شعبه، نال إعجابهم وتذكروا موقفه، والمجالات التي تعتمد على الإبداع إذا سُخِرت من أجل إفادة قضية لمن يُشارك أهله المشاعر نفسها، لأصبحت هذه الموهبة أفضل من بقية الموهبة، لأنها دونت اسمها في سجلات لا يمكن للموهبة فقط أن تدخل اسمك فيها.
مر أكثر من أسبوع على "طوفان الأقصى"، ولم يتحدث محمد صلاح ولو عن طريق الإشارة، مر أسبوع تداعت كل الأخبار فيه، وانقلب العالم رأساً على عقب، وتحدث تيبو كورتوا الذي لا ناقة له ولا جمل في هذه القضية، وبكى أليكساندر زينشينكو من أجل دولة ربما لم يدخلها طوال حياته.
بينما ابن منطقتنا الحزينة ظل صامتاً، ولو تحدث سنشعر بل سنكون متأكدين أنه ليس من أجلنا ومن أجل حزننا بل من أجل "منتالتي" صلاح وصورته ليس إلا.
ماذا سيخسر محمد صلاح إذا تكلم؟
هل ستُعاقبه إنجلترا وتنفيه خارجها؟ أم سيُصدر الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم فرماناً بالقبض عليه؟ أم سيتدخل نادي ليفربول ويفسخ عقده بشكل رسمي طالباً منه أن يعود إلى وطنه ويحمل اسمه وتاريخه مع النادي في حقيبته؟
كل هذه الفرضيات إجاباتها: لا، لا لن يُفعل به أي شيء من هذا؛ لأنه "مو" صلاح الذي يمتلك قاعدة جماهيرية مهولة على كل المنصات، والنجم العربي الوحيد الذي يمتلك قوة مؤثرة بشكل لا يُمكن التغاضي عنه، داخل إنجلترا وخارجها.
هو اللاعب الذي رفضت إدارة نادي ليفربول التفاوض بشأنه في السوق الصيفي الماضي، مهما بلغت الإغراءات المالية لضمّه، وهو اللاعب الذي أصبح اسمه يتصدر لائحة كل تصويت رسمي يفوز به، بسبب قاعدته الجماهيرية العربية التي منحته قوة على قوته، بسبب دعمها المتواصل له طوال مسيرته الرياضية الطويلة.
سواء تحدث محمد صلاح، أو أصر على الصمت، أو حتى تحدث بالكناية والمجاز؛ فإن المُحصلة واحدة بالنسبة لنا الآن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.