ما زال التهافت العربي الرسمي على التطبيع مع الكيان المحتل لأرض فلسطين مستمراً، وهو الإنجاز الذي يرتكز عليه رئيس وزراء الكيان في استمرارية وجوده في المشهد السياسي، ومن خلاله يراهن على عمق نجاح جهود التطبيع في تغيير نمط وجود الكيان وانتشاره في المنطقة العربية، فهل يمكن أن تنجح الفكرة في إيجاد موطئ قدم للاحتلال الإسرائيلي في المنطقة العربية؟
اتفاقيات التطبيع بمختلف مسمياتها، اتفاقية سلام أو تطبيع أو الاتفاق الإبراهيمي للسلام، والتي جمعت الاحتلال الإسرائيلي بقيادات بعض الدول العربية، بداية من اتفاقية كامب-ديفيد عام 1979، وصولاً إلى اتفاق واشنطن عام 2020، تختلف في تفاصيلها ولكنها تشترك في أهم مضمون، وهو شرعنة وجود الاحتلال كدولة جوار.
وقد تطور محتوى تلك الاتفاقيات من البحث عن السلام بعد عدة حروب بين مصر والاحتلال الإسرائيلي، حتى وصلنا إلى الاتفاق الإبراهيمي للسلام، والذي نتج عنه بشكل سريع مصالح مشتركة في العديد من القطاعات، التي تشمل الاقتصاد والاستثمار والخدمات المالية والعسكرية والأمنية والطاقة والتكنولوجيا والإعلام والسياحة والبحث العلمي والنقل والرياضة، وغيرها من القطاعات.
وبدأت مؤخراً التسريبات الإعلامية حول إمكانية دخول السعودية في اتفاق تطبيع، وهو إن تم سيكون وقعه ليس بأقل من وَقع اتفاقية كامب-ديفيد؛ نظراً للقيمة المعنوية الكبيرة التي تمثلها السعودية في العالم الإسلامي.
بلا شك هي خطوات جبارة تمت وما زالت مستمرة في المكاتب السياسية، والتي جعلت السياسيين العرب يتعاطون مع مجرمي الحرب من قيادات الاحتلال الإسرائيلي في العلن، ويتبادلون الزيارات والاجتماعات، في الوقت نفسه ما زالت فلسطين محتلة، والجرائم الإسرائيلية مستمرة.
لا شك في أن التطور الكبير في أهداف اتفاقيات التطبيع مؤثر جداً، ففي الماضي كان التوقيع بحد ذاته وجلوس القيادات العربية مع الإسرائيليين في العلن هو الهدف المباشر في ذلك الوقت، لكن الآن كل شيء اختلف، كل شيء مباح، لا توجد قيود، لأنها لم تكن أصلاً اتفاقيات تطبيع، حتى إنها ليست خيانة، بل هي شيء آخر تماماً، لا يمكن أن تتطور العلاقات من العداء إلى الصداقة والشراكات بكل مجالات الحياة هكذا مباشرة دون مقدمات، هي ليست تطور علاقات، بل هي علاقات راسخة.
واجهت المقاومة الفلسطينية في تاريخ تضحياتها من أجل تحرير فلسطين الكثير من التحديات، ولن تكون اتفاقيات التطبيع أصعب من تلك التحديات التي تم تجاوزها، وبقيت فلسطين وشعبها مؤمنين بعدالة القضية، وواثقين من زوال الاحتلال، حتى لو توغّل كثيراً بين مكاتب السياسيين العرب، فقد سقط الكثير في مستنقع الاحتلال، ورغم قوة تأثير البعض ونفوذهم فإن الثورة بقيت ومات الكثير من الخونة.
لا نستطيع التعامل بالفكر العلماني، فالدين هو جزء أساسي من هذا الصراع، إن لم يكن هو كل هذا الصراع، حتى وإن طغت لغة المال والاقتصاد والمصالح، وفي القرآن الكريم {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ} ومَن يخُن اللهَ تعالى يهُن ولا تصعب عليه الخيانة، ولا يمكن حتى للاحتلال أن يراه بطريقة مختلفة عما فعله هولاكو بالخائن ابن العلقمي، الذي أسهم في سقوط بغداد عندما غزاها التتار.
يوجد الكثير ممن هم على شاكلة "ابن العلقمي" في الصراع مع الاحتلال الصهيوني، والخيانة لا دين لها ولا هوية، فهي تؤدي إلى النتيجة نفسها، والمقاومة الفلسطينية واجهت الكثير من الخيانات، سواء من داخلها أو من الأشقاء العرب، وبقيت رغم ذلك، بل وتطورت كثيراً في السنوات الأخيرة، وأصبح الاحتلال يهرول نحو اتفاقيات التطبيع، ليس فقط من أجل شرعنة وجوده، بل أيضاً من أجل تشديد الحصار على المقاومة الفلسطينية.
ستبقى الجماهير العربية مهما جارت عليها الظروف هي المانع القوي لانتشار سرطان الصهيونية في العالم العربي، والشواهد على ذلك كثيرة، وفي معظم البطولات الرياضية لا يوافق معظم الرياضيين العرب على شرعنة لاعبي الاحتلال، وهذا ينطبق على النشاطات الثقافية والاقتصادية وغيرها، ولم يجد الاحتلال لنفسه موطئ قدم في عمان والقاهرة، ولم تمنع اتفاقية أوسلو من نشوء جيل فلسطيني مقاتل، وما نشأة "عرين الأسود" إلا دليل حقيقي على فشل كل الإنفاق على أدوات الاحتلال في مدن فلسطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.