فضيحة من العيار الثقيل يشهدها الحزب الديمقراطي وإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في أعقاب إعلان المدعي العام الفيدرالي في مانهاتن "جنوبي نيويورك" عن لائحة اتهام بالرشوة والفساد، ضد السيناتور الديمقراطي البارز بوب مينينديز وزوجته.
مئات الآلاف من الدولارات وذهب ومرسيدس
مينينديز "69 عاماً" ليس مجرد سيناتور من 100 شخص هم مجموع أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي "الغرفة الأعلى في الكونغرس"، بل إنه يشغل في الوقت ذاته منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس منذ عامين، إضافة إلى تمثيله ولاية نيوجيرسي منذ سنوات إلى جانب رفيقه السيناتور الديمقراطي كوري بوكر.
ذكرت لائحة الاتهام الفيدرالية الموجهة إلى مينينديز وزوجته، نادين أرسلانيان مينينديز، أنهما قبلا مئات الآلاف من الدولارات مقابل استغلال منصب السيناتور لصالح السلطات المصرية.
وأوضحت اللائحة أن ذلك يشمل تقديم معلومات حساسة للحكومة المصرية، والمساعدة سراً في توجيه المساعدات العسكرية للقاهرة، إلى جانب ضغطه على الإدارة للموافقة على صفقتَي أسلحة لمصر بقيمة 2,56 مليار دولار، رغم مخاوف واشنطن من سِجل القاهرة الحقوقي.
وتقول لائحة الاتهام: "تشمل تلك الرشاوى النقد والذهب ومدفوعات الرهن العقاري وسيارة فاخرة وأشياء أخرى ذات قيمة".
وبحسب اللائحة التي جاءت في وقت حرج للديمقراطيين قبيل الحملة الانتخابية، فإن نادين، زوجة مينينديز، قدَّمت مع صديق لها وهو رجل أعمال أمريكي من أصل مصري "وائل حنا"، السيناتور الديمقراطي إلى مسؤولي المخابرات والجيش المصريين.
كما شملت الاتهامات ثلاثة من رجال الأعمال، هم وائل حنا وخوسيه أوريبي وفريد ديبس، وقال ممثلو الادعاء إن حنا، وهو مصري الأصل، رتّب لتنظيم حفلات عشاء واجتماعات بين مينينديز ومسؤولين مصريين في عام 2018، ضغط خلالها المسؤولون على السيناتور الأمريكي بشأن وضع المساعدات العسكرية، وقال ممثلو الادعاء إن حنا أدرج نادين مينينديز في المقابل على جدول رواتب شركته في "وظيفة لا تتطلب الحضور".
وفي إشارة أخرى إلى عمق العلاقة بين مينينديز والنظام المصري، ذكرت لائحة الاتهام أن السيناتور التقى "مسؤولاً كبيراً في المخابرات المصرية" دون ذكر اسمه في أحد فنادق واشنطن، في يونيو/حزيران 2021 – والتي تشير بعض المعطيات أنه قد يكون عباس كامل – مع أعضاء مجلس الشيوخ الآخرين، الذين كان من المتوقع أن يجتمعوا للتأكيد على وضع حقوق الإنسان في مصر.
وأرسل السيناتور مينينديز حينها رسالةً أوجز فيها الأسئلة المتوقعة، وجاء فيها أيضاً "بهذه الطريقة يمكنك إعداد تفنيداتك".
السيناتور أفلت من قضية فساد سابقة
الولايات المتحدة بطبيعة الحال ليست محصنة ضد الفساد المتمثل في استغلال النفوذ مقابل المال السياسي، لكنّ المحير في الأمر سقوط السيناتور البارز بهذا الشكل الساذج- إن جاز لنا التعبير- واستسلامه لإغراءات المال والذهب والهدايا.
كما أن السيناتور مينينديز يدرك تماماً أن الأجهزة العدلية في بلده تؤدي عملها باستقلالية ولا تخضع لنفوذ الحزب الحاكم كما في الكثير من الدول، ولا شك في أنه يدرك سهولة اكتشاف وتتبع هذا النوع من الفساد، لكن يبدو أن إغراء المال وبريق الذهب أعمى بصيرته وأنساه أنه أفلت لعدم كفاية الأدلة من قضية فساد منفصلة في العام 2018، عندما اتُّهم بأخذ هدايا ورحلات طيران خاصة مجانية من محتال الرعاية الطبية سالمون ميلغن، المدان بالسجن 17 عاماً لسوء استغلال الأموال العامة، وممارسة الاحتيال والتربح بملايين الدولارات من حسابات التأمين الصحي.
ورغم ذلك حثّ مينينديز زوجته على عدم إرسال رسائل نصية أو إرسال بريد إلكتروني بشأن المدفوعات، حتى لا يتم تعقبها من وكالات إنفاذ القانون، وفقاً لما ورد في لائحة الاتهام التي تتكون من 39 صفحة.
في قضية الفساد الحاليّة، شرعت المباحث الفيدرالية الأمريكية في التحقيقات الموسعة منذ أشهر، إثر التغييرات التي طرأت على حياة السيناتور مينينديز وزوجته، إذ امتلكا بشكلٍ مفاجئٍ شقة فاخرة في واشنطن العاصمة، فضلاً عن سيارة مرسيدس وكمية من المجوهرات ومئات الآلاف من الدولارات، حصلا عليها من رجل الأعمال وائل حنا، الذي كان وسيطاً بين الزوجين والمسؤولين المصريين.
وقال ممثلو الادعاء إن الحكومة المصرية منحت في عام 2019 إحدى شركات حنا ترخيصاً حصرياً لتصدير اللحوم الحلال من الولايات المتحدة إلى مصر، رغم افتقارها إلى الخبرة في شهادات الأغذية الحلال، واستخدم حنا عوائد تلك الصادرات لدفع الرشاوى، بحسب لائحة الاتهام.
كما أوضح الادعاء أنه بعدما أثارت وزارة الزراعة الأمريكية مخاوف مع المسؤولين المصريين بشأن احتكار شركة حنا النشاط، انطلاقاً من شعور بالخوف من ارتفاع التكاليف على منتجي اللحوم الأمريكيين، طلب مينينديز من مسؤول بوزارة الزراعة الأمريكية السماح للشركة بالاحتفاظ بوضعها، لكن المسؤول لم يتجاوب مع مطالب مينينديز.
وتمهيداً لمنح الحكومة المصرية شركة حنا ترخيصاً حصرياً لتوريد اللحوم، ألغت القاهرة التعامل مع 7 شركات متخصصة في استيراد اللحوم الحلال، ومنحتها لشركة " آي إس إي جي حلال" المملوكة رسمياً لحنا، بحسب لائحة الاتهام.
قال ممثلو الادعاء، إن مينينديز، في وقت ما من عام 2018، أرسل رسالة نصية تحتوي على معلومات "حساسة للغاية" من وزارة الخارجية بشأن الموظفين في السفارة الأمريكية في القاهرة إلى السيدة مينينديز، والتي أرسلتها إلى حنا، الذي أرسلها بدوره إلى مسؤول حكومي مصري.
تقتبس لائحة الاتهام رسائل نصية من السيدة مينينديز تتفاخر بتأثير السيناتور، ففي مارس/آذار 2020، أرسلت السيدة مينينديز رسالة نصية إلى مسؤول مصري، تقول فيها: "في أي وقت تحتاج فيه إلى أي شيء، لديك رقمي وسنقوم بكل شيء".
مينينديز ينفي رغم لائحة الاتهام القوية
رغم لائحة الاتهام المتماسكة التي قدمها المدعون الفيدراليون، فإن السيناتور مينينديز نفى- الإثنين الماضي- ارتكاب أي مخالفات، وتعهد بالبقاء في الكونغرس متحدياً دعوات للتنحي من مسؤولين منتخبين في نيوجيرسي، منهم الحاكم الديمقراطي للولاية "فيل مورفي"، وكذلك رفيقه السيناتور الديمقراطي كوري بوكر، الذي يشغل عضوية لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ.
وقد يؤدي قرار مينينديز البقاء في مجلس الشيوخ إلى تعقيد جهود الحزب الديمقراطي الذي يسعى للحفاظ على فارق الأغلبية الضئيل "51 إلى 49" في المجلس، رغم أن نيوجيرسي تعد أحد أهم معاقل الديمقراطيين، إذ لم تنتخب جمهورياً لتمثيلها في مجلس الشيوخ منذ عام 1972.
جدير بالذكر أن مينينديز تنحى مؤقتاً من رئاسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، حيث تُلزم قواعد الديمقراطيين في المجلس، أيَّ عضو متهم بارتكاب جناية بالتخلي عن منصبه القيادي، لحين البتّ في القضية، ويمكنه استعادة المنصب لاحقاً إذا ثبتت براءته.
وقال مينينديز في أول تصريحات علنية له منذ توجيه الاتهامات إليه "لديّ إيمان راسخ بأنه عند تقديم جميع الحقائق لن أُبرّأ فحسب، بل سأظل عضواً بارزاً في مجلس الشيوخ عن ولاية نيوجيرسي".
وقد مثل مينينديز وزوجته ورجال الأعمال أمام محكمة مانهاتن الاتحادية يوم أمس الأربعاء في جلسة إجرائية أولية، حيث يواجه الزوجان عقوبة تصل إلى السجن 45 عاماً في حال إدانتهما، لكن القضاة في هذا النوع من القضايا عادة ما يصدرون أحكاماً أقل من الحد الأقصى للعقوبة، كما تقول وكالة رويترز.
القضية تحرج الحزب الديمقراطي
كاتب المقالة أجرى مقابلة مع الصحفي المختص في الشأن الأمريكي زيد بنيامين، وسأله عن توقعاته بكيفية تأثير قضية السيناتور مينينديز على الحزب الديمقراطي، فردّ بقوله "بلا شك سيتأثر الحزب بشكل كبير، خصوصاً مع قُرب موسم الانتخابات المحلية، حيث سيسأل المرشحون بشكل دوري عن موقفهم من مينينديز، وكما تعلم فإن مواعيد الانتخابات المحلية أغلبها في نهاية العام الحالي أو الربع الأول من العام المقبل، ولهذا نجد الأصوات الداعية لاستقالته في نيوجيرسي أعلى من واشنطن على سبيل المثال".
وبشأن تأثيرات القضية على العلاقات الأمريكية المصرية، يرى زيد بنيامين، الذي يتخذ من واشنطن العاصمة مقراً له، أنه "من المبكر الحديث عن العلاقات بين البلدين دون وجود حكم صادر، ولكن فعلياً من الواضح قلق مصر من اقتطاع أي جزء من المساعدة الأمريكية عنها، وهو ما يشير إلى عمق صعوباتها الاقتصادية".
وتابع بقوله، من الممكن أن تُصعّب قضية السيناتور زيارات مدير المخابرات العامة المصرية عباس كامل مستقبلاً إلى واشنطن، أو حتى انخراطه في استقبال وفود أمريكية بسبب ورود اسمه في الدعوى، وهناك دعوات في مجلس النواب للنظر في هذه المساعدات الأمريكية إلى مصر وتقييدها، لكن هذه الدعوات لم تصل إلى مرحلة (التريند) بعد، إلى الآن هي أصوات متفرقة.
سكان نيوجيرسي لهم الكلمة الفصل
كما استطلع كاتب المقالة رأي المحامي الأمريكي جون هوتسون، الذي قال إن السيناتور مينينديز يحق له افتراض البراءة فيما نُسب إليه من تهم جنائية، مضيفاً أن القرار بشأن ما إذا كان ينبغي له الاستقالة بدل البقاء في منصبه فإنها قضية سياسية وليست مسألة قانونية، وأشار إلى أن السيناتور مينينديز يقاوم حتى الآن الدعوات المُطالبة باستقالته "رغم تصاعدها".
وأردف هوتسون المقرب من الحزب الديمقراطي أن الناخبين في نيوجيرسي ستكون لهم الكلمة الفصل فيما إذا كان سيبقى في منصبه أو العكس.
من نيوجيرسي تحدثت إلى الكاتبة الشابة آيات ياسر، موضحة أن قضية السيناتور مينينديز لم تحظَ باهتمام كبير في مجتمع نيوجيرسي حتى الآن، وذكّرت بأن استطلاعات الرأي الحديثة تقول إن مستوى ثقة المواطنين الأمريكيين في الكونغرس بمجلسيه "الشيوخ والنواب" تضاءلت إلى ما بين 20% إلى 19% فقط.
توقعات بفتح تحقيق جديد في نيوجيرسي
أضافت آيات وهي من سكان مدينة جيرسي سيتي، عاصمة مقاطعة هدسون، أنّ قبول الرشاوى واتخاذ الإجراءات بناء على طلب من حكومة أجنبية، أمر لا يصدق، ويمكن أن يرقى إلى التجسس والتواطؤ، خاصة أن الشخص الذي نُسبت إليه تلك الاتهامات يرأس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، وهي لجنة ذات نفوذ كبير في تخصيص وتوجيه المساعدات العسكرية، إلى جانب أنه يشغل مقعد عضو مجلس الشيوخ عن ولاية نيوجيرسي، بالمشاركة مع زميله السيناتور كوري بوكر.
وتوقعت ناصر في ختام محادثتها مع كاتب المقالة أن تقوم إدارة نيوجيرسي بفتح تحقيق آخر في القضية، باعتبار الولاية دائرة اختصاص يقيم فيها المتهمان الرئيسيان.
ولعله من الواضح أن الدعوات لتنحي مينينيديز تتصاعد داخل أورقة مجلس الشيوخ، خاصةً من الديمقراطيين، حيث ارتفع عدد المطالبين باستقالة السيناتور إلى 21 شخصاً من جملة 51 عضواً ديمقراطياً، من بينهم أعضاء في لجنة العلاقات الخارجية مثل السيناتور كوري بوكر، والسيناتور كريس ميرفي، علماً أن الأخير لمح إلى أن علاقة الولايات المتحدة مع مصر ستتأثر بسبب إدارتها "حملة تأثير غير قانونية للغاية، موجهة إلى أعضاء لجنة العلاقات الخارجية".
دعوة لحجب 235 مليون دولار من المساعدات الأمريكية لمصر
في سياقٍ ذي صلة، طالبت المدير التنفيذي لمعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط (TIMEP)، لمى السعدني، الكونغرس الأمريكي بالتحرك لتعليق مبلغ 235 مليون دولار من التمويل العسكري الأجنبي المشروط، الذي وافقت عليه للتو إدارة بايدن لمصر، من خلال تنازل يقدمه وزير الخارجية أنتوني بلينكن بمبررات تتعلق بالأمن القومي، لافتةً إلى أنه (بموجب القانون الأمريكي، تخضع 320 مليون دولار من المساعدات لمصر لشروط حقوق الإنسان، ومع ذلك يمكن للوزير التنازل عن هذه الشروط بمبلغ 235 مليون دولار من هذا التمويل، إذا كان ذلك في مصلحة الأمن القومي الأمريكي).
أوضحت لمى أن القيام بذلك سيؤدي إلى إرسال رسالة واضحة، مفادها أن التدخل الأجنبي من هذا النوع، سواء أكان من قبل مصر أو بلدان أخرى، لن يستمر.
ولفتت المحامية والباحثة الأمريكية من أصل مصري في مقالٍ لها، أن فرض العقوبات ضد المسؤولين المصريين الذين تم تحديدهم على أنهم متورطون في هذا العمل الفاسد المذهل يمكن أن يصبح له ما يبرره.
أخيراً، يبدو أن قضية الفساد المتهم بها السيناتور مينينديز وزوجته ستتصاعد في الفترة القادمة، بالتزامن مع محاكمتهما التي استهلت أعمالها يوم أمس الأربعاء، حيث تم إطلاق سراح السيناتور بكفالة قدرها 100 ألف دولار، شريطة عدم الاتصال بالمتهمين، ما عدا زوجته المتهمة معه في القضية، كما اشترطت عليه المحكمة تسليم جواز سفره الشخصي.
وفي تطور آخر، ذكرت شبكة NBC الأمريكية، الأربعاء، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي يجري تحقيقاً منفصلاً لتحديد ما إذا كانت أجهزة المخابرات المصرية متورطة في مخطط الرشوة المزعوم، الموصوف في لائحة الاتهام الموجهة إلى السيناتور بوب مينينديز وزوجته، حسبما قالت مصادر مطلعة على الأمر للشبكة.
إذاً، ستكون الأيام القادمة حبلى بالمزيد من التطورات في قضية السيناتور مينينديز، سواء على صعيد المحكمة أو في مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي بدأ تحريات منفصلة، أو في أورقة الكونغرس، أو على مستوى ولاية نيوجيرسي، وقد تتصاعد الضغوط أكثر لدفع الرجل إلى لاستقالة، وربما تتكثف الدعوات المطالِبة بخفض المساعدات العسكرية إلى مصر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.