يحتفل المسلمون كلّ عام بالمولد النّبوي الشّريف وهو مناسبة لتجديد الصّلة الرّوحية بمحمّد بن عبد الله، رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو، أيضاً، محطّة لحساب نسبة التّأسِّي به وتصحيح كلّ سلوك ينافي هَديه وتعاليمه. ويُسهب الخطباء والوعّاظ، في هذه المناسبة، في الحديث عن شخصيّة محمّد، الرّسول الخاتم للرّسالات السّماوية، وذكر خصائصه ومناقبه، وأوصافه الخَلقيّة والخُلقيّة، وما فضّله الله به دون العالَمين. ولكنّ المَرء قد يُصدم حين يُلقي السّمع إلى ما يقوله بعضُ أو جُلّ الذين يتناولون حياة الرّسول الكريم وشخصيّته وإنجازاته، في هذه المناسبة أو في غيرها، ولا يشعر بأيّ رابطة إنسانيّة أو وشيجة قويّة أو تواصل روحيّ بينه وبين محمّد الله صلّى الله عليه وسلّم.
ولقد استمعتُ، في بعض مناسبات المولد النّبوي وفي غيره، إلى بعض الخطباء في المساجد أو في وسائل الإعلام وهم يتحدّثون عن شخصيّة محمّد الرّسول الكريم فلم أجِد لكلامهم صدى في نفسي، ولم أشعر بارتباط قويّ أو بصلة حيّة بيني وبين السّيد الجليل محمّد بن عبد الله. وكأنّ هؤلاء الخطباء يتحدّثون عن شخص بعيد لا أعرفه أو عن قريب لا أذكره. إنّهم يتحدّثون عن شخصيّة محمّد صلّى الله وسلّم حديثاً بارداً باهتاً وناقصاً غير مَكمول لا يتناول الأبعاد المختلفة لهذه الشّخصيّة، ولا يكشف عن عُمق إنسانيّتها وضخامة مسارها وعِظم عطائها وجليل تأثيرها.
كيف ينبغي أن نتحدّث عن شخصيّة الرّسول الكريم؟
ويَقوَى الاعتقاد عندي أنّ تخلّف هذا الخطاب عن الأداء الجميل، وقصوره عن بلوغ الغاية في هذا الموضوع سببُه أمران اثنان؛ أمّا الأمر الأوّل فإنّ معظم هؤلاء الخطباء والأساتذة لا يتحدّثون حديثاً شافياً كافياً، كما هو واجب ومَأمول، عن محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم الإنسان الذي كان يأكل الطّعام ويمشي في الأسواق ويعيش إنسانيّته كاملةً غير منقوصة.
وبعبارة أخرى فهُمْ لا يتحدّثون عن سلوكه وأعماله داخل بيته حين يكون في خدمة أهله، ويَخصف نَعله ويَخِيط ثَوبه، ولا يتناولون سيرته في خَلْوته وجَلْوَته، وأثناء طعامِه وشرابه، وحين زِينته ولباسه. ولا يتحدّثون عن مواقفه وأحواله خارج البيت مع أصحابه وأقربائه، ومع خصومه وأعدائه، وفي سياسته واقتصاده، وفي حَربه وسِلمه، وفي غَضبته وحِلمه، وفي دُعابته وجِدّه، وفي فرحته وحزنه، وفي سائر حركته وسُكونه. . .
إنّ غالبيّة الذين يتحدّثون عن محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم يتوسّعون في الجانب الرّسالي الغَيبيّ لهذه الشّخصية العظيمة، ويُغفلون أو يقصّرون أو يَستنكفون، ابتداء، عن الوقوف عند جانبها الإنسانيّ. وكأنّهم يجدون حَرَجاً أو لا يَرَون لهذا الأمر من فائدة تُجْنَى أو أهمّية تُرتَجَى. ولقد فاتَ هؤلاء السّادة أن يُدركوا أنّ الجمع بين الجانبين كليهما هو الصّواب وهو المأمول، وأنّ تناول هذه الشّخصيّة العظيمة في بُعدها الإنسانيّ التّرابي الذي ننتمي إليه، وفي بُعدها الرّسالي الغَيبيّ الذي نتطلّع إليه هو الذي يُسهِّل اقترابنا من شخصيّة محمّد بن عبد الله النّبي المصطفى. وحينئذ تصبح هذه الشّخصيّة العظيمة، في وَعينا وفي حضورنا، شخصيّة إنسانيّة متميّزة تتعايش مع الملأ الأدنَى بكامل إنسانيّتها وتتواصل، في الوقت نفسه، مع الملأ الأعلى بفَائض روحانيّتها. ومثلُ هذا المنهج الذي يتناول شخصيّة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم على أنّه إنسان كامل الإنسانيّة، يمارس إنسانيّته كاملةً فوق الأرض ورُوحُه سابحة في عالم الغَيب والملكوت هو الذي يجعل بيننا وبين محمّد الإنسان الرّسول صِلةً حيّة ونَسَباً قويّاً وارتباطاً متيناً فيكون، حينئذٍ، أقرب إلينا من أنفسنا ونكون، عندئذ، أقرب إليه بشعورنا حبيباً إلى ذواتنا نشعر به شعوراً إنسانيّاً سامقاً فنتأسَّى به ونتّبعه.
وأمّا الأمر الثّاني فإنّ أيَّ حديث عن محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم لا يُزهر ولا يُثمر إلّا إذا كان الحبّ هو لغته وهو مادّته وهو وسيلته. هذا الحبّ الذي كان هو صلّى الله عليه وسلّم مَنبعه ومصدره وكان هو، أيضاً، مَجْلاه ومظهره. و لقد استمعتُ، يوماً، إلى أحد المُدمنين على الخمر وهو يتحدّث، في صَحْوه، عن شخصيّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فاستجابت روحي لحديثه، ورقَّتْ نفسي لكلماته وتحرّكت عواطفي لمعانيه. وحينئذٍ تأكّد لديَّ، من جديد، أنّ المظاهر ليست مخابر، وأنّ الحبّ مطيّة ومفتاح، وأنّ الحبّ لا يكون، دائماً، في المكان الذي يُظَنّ وجودُه فيه، وأنّ الذي ذاق حجّةٌ على الذي لم يَذُق.
إنّ الحبّ، في هذا المقام وفي كلّ المقامات، هو الذي يختصر المسافات ويَكسر العقبات، وهو الذي يَهَب صاحبه روحاً متوقِّدة تُؤْتَى القدرة على الوصول إلى المعرفة الصّحيحة والمعنى اللّطيف وبلوغ الفهم الجميل، وتحقيق التّواصل العميق. وهذا الحبّ، أيضاً، هو الذي يمنح صاحبه شفافيّةً تُزيل الغشاوات وتصحّح الرّؤيا وتُعلن ما خَفِي وتُظهر ما بَطَن.
محمّد رسول الله. . . الجانب الإنسانيّ والجانب الغَيبيّ
محمّد رسول الله. . . الجانب الإنسانيّ التّرابي والجانب الرّسالي الغَيبيّ. وكلا الجانبين متضَمَّنٌ في اسمه وفي لقبه. محمّدٌ: الاسمُ الذي يدلّ على الإنسان وعلى أصله التّرابي. ورسولُ الله: اللّقبُ الذي يشير إلى الرّسالة وبُعدها الغَيبيّ. وهذا الجانب الإنسانيّ التّرابي وهذا الجانب الرّسالي الغَيبيّ كلاهما منصوص عليه في القرآن رَسْماً ومعنى. وإذا كان الجانب الإنسانيّ التّرابي والجانب الرّسالي الغَيبيّ كلاهما قد امتزج امتزاجاً قويّاً في شخصيّة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم مدّة ثلاثة وعشرين عاماً فإنّ تضخيم أحد الجانبَين على حساب الآخر، أو طَيَّ أحدهما ونَشْر الآخر قد يَحجب الرّؤية ويُشوّش الفهم ويَأْفكُنا عن الإحاطة بأبعاد هذه الشّخصيّة العظيمة ويمنعنا من استيعاب حركتها الضّخمة في مجالها الكونيّ الحيويّ الكبير وهو، من قبلُ ومن بعدُ، منهج خاطئ وسلوك مخالف لروح النّص القرآنيّ الذي رفع منزلة محمّد بن عبد الله الإنسان النّبي في العالَمين، وأشاد بإنسانيّته السّامقة وبروحانيّته الفائقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.