الزلازل والكوارث الطبيعية لا تعرف الحدود السياسية بين الدول؛ فزلزال المغرب شعر به بعض الجزائريين. الأرض واحدة، فالعاصفة التي ضربت ليبيا وتسببت في فيضان درنة نشأت في جنوب أوروبا، والبعض يعزو سبب ذلك لحرائق الغابات الشديدة التي ربما تسببت في منخفض جوي تسبب في ولادة العاصفة.
عندما ضرب زلزالٌ تركيا منذ شهور ضرب معها سوريا، إذ لم يعترف بحدود سياسية، ليذكر الجميع بما يجمع الشعبين من جغرافيا ودين وثقافة وتاريخ مشترك رغم اختلاف اللغة.
حين تكون الأرض واحدة والشعب مشتركاً في ثقافته وتاريخه فالحدود هي حدود لنظم سياسية حاكمة، ولهذا أطلقوا عليها الحدود السياسية.
ورغم أن أوروبا هي من اخترعت الدولة القومية بعد صلح وستفاليا عام 1648، الذي أقر السيادة الكاملة للدول على حدودها الجغرافية؛ إلا أن أوروبا كانت سباقة في عصرنا الحديث في إزالة الحدود بين الدول الأوروبية، فأصبح لدى المواطن الأوروبي حق التنقل عبر كامل أوروبا بسهولة، دون الحاجة لتأشيرة أو تصريح. وبشكل لافت، أصبحت أوروبا وطناً لكل الأوروبيين، بغض النظر عن حدود دولهم السياسية. هذا الانفتاح الجديد جعل المواطن الأوروبي بهوية وانتماء جديد يجعله مستعداً للتضحية والدفاع عن أوروبا كلها.
بينما في الدول العربية، ورغم أن ما يجمع العرب أكثر بكثير مما يجمع الأوروبيين، إذ يجمعهم الدين واللغة والتاريخ والثقافة وجغرافيا واحدة ممتدة من المحيط إلى الخليج، إلا أن المواطن العربي مازال يعاني غالباً عندما يرغب في الانتقال من دولة إلى أخرى، خاصة فيما يتعلق بدول الخليج الثرية، حيث كانت بعض الدول مثل سوريا ومصر والسودان يسهل التنقل بينها ربما لكونها ليست غنية وليست مطمعاً للمهاجرين.
الوطن
حب الوطن هو فطرة مجبول عليها الإنسان، بل ويشترك مع الكثير من الكائنات الحية مثل الحيوانات والطيور والأسماك في ذلك. فكثيراً ما نجد الحيوانات والطيور تضع علامات في أماكن عيشها لتكون خاصة بها ولا تسمح لغيرها من الحيوانات بالاقتراب منها. وكثير من الحيوانات والطيور بل والأسماك تهاجر لآلاف الكيلومترات ثم تعود لأوطانها.
الوطن هو المكان الذي نشأ فيه الإنسان وتشرّب ثقافته وقيمه واكتسب عاداته. ومع ذلك، من وجهة نظر النظم السياسية الحاكمة، يتم تحديد الوطن عادة بواسطة الحدود التي تم رسمها، والتي غالباً ما كانت نتيجة للتدخل الغربي أو الاحتلال. ثم تطالب هذه النظم الشعوب بالإخلاص لهذا الوطن المحدود بالخطوط المسماة بالحدود.
ويجب الإشارة هنا إلى أن هذه الحدود لا تعني الوطن بالنسبة لكثير من الشعوب، حيث يمكن أن يتم تقسيم الشعب نفسه بين دول مختلفة بسبب خطوط الحدود المرسومة.
فرغم توحيد اللغة والثقافة والتاريخ إلا أن الأرض العربية تم تقسيمها إلى أكثر من عشرين دولة وإمارة مختلفة. والأكراد تم تقسيمهم على عدة دول في سوريا والعراق وإيران وتركيا، والأمازيغ يتوزعون على كل دول شمال أفريقيا.
الإشكالية التي تنشأ هنا هي نظرية في بعض الأحيان وواقعية في أحيان أخرى، وهي تتعلق بمعنى الوطن عندما تقوم النظم السياسية الحاكمة التي تشترك في الثقافة والتاريخ واللغة أحياناً بالصراع مع بعضها. هذا الصراع يثير تساؤلات حول ماذا يعني الوطن في هذا السياق المعقد، وكيف يمكن للأفراد توجيه انتمائهم وولائهم بين الواجبات المتعارضة تجاه دول مختلفة؟!
من ناحية أخرى، هناك إشكاليات تنشأ من وجهة نظر المواطن تجاه واجباته تجاه الوطن. في النظرية، يُفترض أن يكون على المواطن أن يكون مستعداً للتضحية من أجل حماية بلده. ومع ذلك، عندما يقرر المواطن الهجرة إلى بلد آخر، يجب عليه أيضاً أن يكون مستعداً للدفاع عن وطنه الجديد.
تظهر هنا إشكالية أخرى عندما تتنازل بعض النظم الحاكمة عن أجزاء من أراضيها لصالح دول أخرى. على سبيل المثال، روسيا باعت ولاية ألاسكا للولايات المتحدة. قبل هذا البيع، كان من واجب المواطن الروسي الدفاع عن سيادة روسيا على ألاسكا. ولكن بعد انتقال ألاسكا إلى الولايات المتحدة، أصبح من واجب المواطن الأمريكي الدفاع عن سيادة أمريكا على ألاسكا.
السيناريو نفسه يتكرر في المناطق التي استولت عليها الولايات المتحدة من المكسيك أو تنازلت المكسيك عنها لصالح الولايات المتحدة.
مثال أقرب، في مصر، كان المواطنون مستعدين لتقديم تضحيات كبيرة من أجل الدفاع عن جزيرتي تيران وصنافير، الي احتلتها إسرائيل عام 1956 خلال العدوان الثلاثي، ومرة أخرى في حرب 1967، واستشهد دفاعاً عنها آلاف المصريين. وبقرار سياسي لاحق، تم التنازل عن الجزيرتين لصالح السعودية. وبالتالي، أصبح من واجب المواطن المصري عدم القيام بأي تضحية من أجل هاتين الجزيرتين بعد الآن، لأن هذا الواجب انتقل إلى المواطن السعودي الذي أصبح مسؤولاً الآن عن الموت دفاعاً عن التراب السعودي الذي أضيفت له حفنة جديدة من التراب في الجزيرتين.
هذه الإشكاليات تسلط الضوء على التحولات الكبيرة في مفهوم الوطن الذي يتغير بناءً على التغيرات السياسية والإقليمية. حيث يتحدد الوطن بقرار سياسي بضم أو التنازل عن أراضي الدولة. إن الوطن حسب الحدود السياسية هو فكرة اخترعها ملوك الغرب ليحل الانتماء لتلك الحدود محل الانتماء للدين والمذهب اللذين تسببا في حروب دموية في أوروبا قبل صلح وستفاليا.
مفهوم الوطن أوسع من الحدود، فبنظرة أعمق سنجد أنه لا يوجد تعارض بين الانتماء للدين، أي دين، والانتماء للوطن، فهما دائرتان متداخلتان وليستا متعارضتين، فقد برز الانتماء للدين دفاعاً عن أوطان بعيدة حين تطوع آلاف من العرب المسلمين للحرب دفاعاً عن إخوانهم في أفغانستان بعد الغزو السوفييتي، وتطوع كثير من العرب للحرب في البوسنة والهرسك دفاعاً عن إخوانهم، في الوقت الذي تطوع فيه مواطنون روس وسلاف من أوروبا الشرقية للحرب بجانب الصرب لأنهم جمعهم الدين المسيحي والمذهب الأرثوذكسي والعرق السلافي.
وليس كل ما سبق يعني عدم الإيمان بالوطن، فحب الوطن موجود بالفطرة، وهو موجود كأمر واقع سياسياً وكقيمة تاريخية وثقافية، ولكن السؤال الأكثر واقعية اليوم متى يكون الوطن طبقاً للحدود السياسية مستحقاً لبذل الروح والمال في سبيله؟
الوطن هو الذي يتبادل الحب مع مواطنيه. فكما هو مطلوب من المواطن أن يحب وطنه (السياسي)، ينبغي أيضاً للوطن (السياسي)، أن يحب المواطن؛ إذ يجب على ذلك الوطن أن يعبر عن حبه للمواطن من خلال توفير العيش الكريم والأمن على النفس والعرض والمال وكفالة الحريات والحقوق.
إذا تمتع المواطن في وطنه بهذه الحقوق والحريات، فإنه سيكون مستعداً لبذل ماله ودمه وأبنائه دفاعاً عن هذا الوطن الغالي. بينما إذا فقد المواطن حريته وكرامته وأمنه في وطنه، فإنه يصبح غير مستعد لبذل دمه دفاعاً عنه. قد يكون مستعداً أحياناً لبيعه بمقابل مالي معدود عبر الهجرة إلى وطن جديد حيث يجد الرخاء والحرية والعيش الكريم.
ويحثنا ديننا إلى أهمية الهجرة حين يتعرض الإنسان للظلم في وطنه الأول، تعبر هذه القيم عن أن الإنسان لديه الحق في البحث عن العدالة والحرية في مكان آخر إذا تعرض للظلم. إذ يقول تعالى في كتابه الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيراً). (النساء – 97)
ولهذا نجد كثيراً من الناس في كل قارات الدنيا يتخلون عن بلادهم ويهاجرون ويستوطنون بلداناً جديدة بحثاً عن المال أو الأمن أو الحرية، وبالنظر لدول في الأمريكتين وأستراليا سنجدها دول مهاجرين تركوا أوطانهم الأصلية واستوطنوا هذه البلاد. إذا كان من الصعب والنادر أن يغير الإنسان دينه وعقيدته؛ فإنه من السهل جداً أن يغير وطنه إذا اضطرته الحياة لذلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.