أطلقت أذربيجان قبل بضعة أيام عمليةً "لمكافحة الإرهاب" في قره باغ. بعد انتهاء حرب ناغورنو قره باغ الثانية في عام 2020 لصالح أذربيجان، أعد الطرفان خطة مصالحة تتضمن روسيا. ومع ذلك، فإن استمرار وجود المنظمات المسلحة الأرمنية في قره باغ والادعاءات بأن الحكومة الأرمينية تساعد هذه المنظمات دفعت الجانب الأذربيجاني إلى اتخاذ إجراءات. أطلقت أذربيجان، التي حذرت الحكومة الأرمينية من ذلك، عملية لمكافحة الإرهاب ضد قره باغ، بعد مزاعم بأن الجماعات المسلحة في قره باغ أنشأت إدارة فعلية. وبعد العملية التي استمرت نحو يوم، انكسرت قوة التنظيمات المسلحة الأرمنية قره باغ، وبدأت اليوم الأطراف في التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاقٍ جديد.
لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق في التفاوض، الذي اشترط فيه الجانب الأذربيجاني استسلام جميع التنظيمات المسلحة في قره باغ وعدم محاولة إنشاء إدارة فعلية. في أعقاب العملية، التي وجهت فيها أذربيجان بشكل غير مباشر ضربة أخرى لأرمينيا بعد حرب ناغورنو قره باغ الثانية، بدأت الاحتجاجات في البلاد ضد الحكومة الأرمينية، التي أعلنت أنها لن تساعد المنظمات المسلحة في قره باغ خلال العملية. للوهلة الأولى، تبدو هذه المشكلة، التي يُنظر إليها على أنها صراع أذربيجاني أرميني، هي في الواقع حالة متعددة الأطراف ومتعددة الأوجه. تشارك في اللعبة قوى إقليمية وعالمية، وأولها تركيا. لقد أظهرت تركيا بوضوح دعمها لأذربيجان، التي تتعامل معها بشعار "دولتين، أمة واحدة"، سواء في حرب ناغورنو قره باغ الأولى، أو حرب ناغورنو قره باغ الثانية، ومؤخراً في عملية مكافحة الإرهاب التي نفذتها أذربيجان. ويبدو أن أذربيجان هي الفائزة في هذه اللعبة بدعم تركيا عسكرياً ودبلوماسياً. ومع ذلك، كانت تركيا بلا شك طرفاً آخر رابحاً إلى جانب أذربيجان.
ظلت علاقات تركيا مع أرمينيا عند مستوى منخفض لبعض الوقت. في عام 2009، وقَّعت تركيا "بروتوكولاً بشأن تطوير العلاقات الثنائية" مع أرمينيا، التي أغلقت معها بواباتها الحدودية منذ عام 1993 في أعقاب حرب ناغورنو قره باغ، وبدأت تركيا عملية التطبيع. وهذا التطور، الذي جاء بعد سنوات وأثار مجتمعيّ كلا البلدين، انتهى في العام 2010 عندما علقت أرمينيا البروتوكول. وبعد ذلك، استمرت العلاقات التركية الأرمينية على مسارها القديم.
في عام 2021، بعد عام من إنهاء أذربيجان الاحتلال الأرمني لقره باغ بدعم جدي من تركيا بعد حرب ناغورنو قره باغ الثانية في عام 2020، عينت وزارتا خارجية البلدين مبعوثين خاصين. واليوم، اتخذت تركيا موقفاً واضحاً إلى جانب أذربيجان في عمليتها لمكافحة الإرهاب في قره باغ، مع الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات مع أرمينيا. يمكننا القول إن الإطالة غير المتوقعة للحرب الروسية الأوكرانية من قبل العديد من الأطراف جعلت مهمة تركيا وأذربيجان أسهل تجاه أرمينيا. وذلك لأن الصراع بين الغرب وروسيا، والذي تفاقم بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، دفع أرمينيا إلى الوقوف إلى جانب الغرب هذه المرة، وبالتالي حُرِمَت أرمينيا من دعم روسيا إلى حد ما.
مكاسب تركيا
كانت أذربيجان هي الفريق الفائز في قره باغ في السنوات الثلاث الماضية. وبعد العملية الأخيرة، تجري أذربيجان الاستعدادات لتقديم الخدمات العسكرية والأمنية لجميع المناطق التي يسكنها الأرمن في قره باغ. وستسيطر أذربيجان على مؤسسات مثل المباني الحكومية والمباني البلدية وستوفر القوات الأذربيجانية الأمن في المنطقة. وهذا يعني السيطرة الفعلية الكاملة على قره باغ من جانب أذربيجان.
ومع ذلك، عندما ننظر إلى الجانب الآخر من القصة، فإن تركيا، إلى جانب أذربيجان، هي الطرف الفائز الآخر في هذا الصراع، ومن الممكن شرح هذه المكاسب في بضع نقاط.
أولاً، من الضروري إجراء تقييمٍ في سياق مشروع الحزام والطريق، الذي كان قيد التنفيذ لفترة طويلة. يمتد الممر الأوسط لمشروع الحزام والطريق من باكو إلى ممر زانجيزور ومن هناك إلى تركيا وأوروبا. لذا فإن من يسيطر على هذا الممر سيتمتع بميزةٍ مهمة للغاية. ومن منظور عملية تركيا لتصبح مركزاً تجارياً وممراً للطاقة، فإن الصراع الأذربيجاني الأرميني له أيضاً معنى مختلف بالنسبة لتركيا. لا تريد تركيا ممراً تسيطر عليه صديقتها أذربيجان فحسب، بل تتوقع أيضاً ضمان أمن واستقرار الممر الأوسط. ولذلك فإن أفضل نتيجة تتوقعها تركيا من هذا الصراع هي تحقيق السلام والاستقرار في منطقة القوقاز، بشرط أن يكون ذلك في صالح أذربيجان. وفي هذا الصدد، لن يكون من الخطأ أن نتوقع أن تقدم تركيا دعماً جدياً لأذربيجان للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع أرمينيا.
ثانياً، يعد أمن القوقاز مهماً بالنسبة لتركيا من حيث إقامة اتصال ليس فقط مع أذربيجان، ولكن أيضاً مع الدول التركية الأخرى في آسيا الوسطى. ويشكل الصعود الأخير لمنظمة الدول التركية تفصيلاً مهماً يوضح أن هذه الرغبة متبادلة. وفي الواقع، اقتربت تركيا جدياً من رغبتها في "إنشاء طريق اتصال مع الدول التركية في آسيا الوسطى"، والذي كان قائماً منذ الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. إن قدرة تركيا على تجاوز الدولة الأرمنية، والتي تشبه تقريباً المنطقة العازلة، وإقامة اتصال مع الدول التركية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأهداف تركيا في أن تصبح قوة عالمية. وفي الوقت نفسه، يعد نقل موارد الطاقة في بحر قزوين أيضاً نقطة مهمة للغاية. ولذلك، فإن الصراع الأذربيجاني الأرميني له معنى بالنسبة لتركيا خارج نطاق أذربيجان.
ثالثاً، من المهم أيضاً من الناحية الجيوسياسية بالنسبة لتركيا ضمان الأمن في القوقاز لصالحها. تركيا حالياً في وضعٍ مليء بعلامات استفهام مختلفة في سوريا من الجنوب، وأوكرانيا من الشمال، واليونان من الغرب. تُعَد سوريا مهمة من حيث أمن الحدود وكذلك مشكلة الهجرة الخطيرة. وهذه هي المنطقة الأهم بالنسبة لتركيا، التي يتعين عليها أن تقوم باستمرار بعمليات مكافحة إرهاب في سوريا، إلى جانب العراق. ومن ناحية الشمال، في البحر الأسود، فإن الحرب الروسية الأوكرانية واحتمال أن تصبح هذه الحرب أصعب وأوسع انتشاراً هي علامة استفهام أخرى بالنسبة لتركيا. وهي تحاول في هذه المرحلة تحقيق الاستقرار في هذه المنطقة وتجنب الآثار السلبية لهذه الحرب قدر الإمكان من خلال القيام بمبادرات دبلوماسية جادة. إن جهود الوساطة التركية، ودورها الحاسم في ممر الحبوب، وقدرتها على الحفاظ على علاقات إيجابية مع طرفي الحرب، تُظهِر نجاحاتها الدبلوماسية في الشمال. ومن ناحية أخرى، هناك في الغرب مشكلة اليونان، التي دأبت على تسليح جزرها في بحر إيغه في انتهاك للقانون الدولي، وتثير باستمرار قضية الجرف القاري، والأهم من ذلك أنها تقود الكتلة المناهضة لتركيا في المنطقة شرق المتوسطية. ومن المرجح أن تتخذ تركيا، التي تستطيع حل مشاكلها في الجنوب بقوتها الصارمة ومشاكلها في الشمال بقوتها الدبلوماسية، إجراءات ضد تحركات اليونان في المستقبل. عند هذه النقطة، تأتي أهمية أمن القوقاز في المقدمة. وبالنسبة لتركيا، التي تتعامل بالفعل مع عدم الاستقرار في الجنوب والشمال، فإن ضمان أمن منطقة القوقاز، التي تمتد إلى حدودها الشرقية، يمكن اعتباره نجاحاً كبيراً لتركيا.
السياسة الخارجية النشطة والطريق إلى القوة العالمية
يعكس الخطاب الذي ألقاه أردوغان في الأمم المتحدة الأسبوع الماضي، والذي ذكَّر فيه بوضوح قائلاً: "إننا ندعم خطوات أذربيجان لضمان سلامة أراضيها"، وجهة نظر تركيا أيضاً بشأن قضية قره باغ. ومع ذلك، لا يصبح هذا منطقياً إلا عند قراءته مع تصريحات أردوغان الأخرى. تحدث أردوغان في خطابه عن النتائج الملموسة لأهداف "قرن تركيا". وبالإشارة إلى قضايا مثل الصراع الأذربيجاني الأرميني، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومسألة الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية، يتوصل أردوغان في الواقع إلى نتيجة للعالم أجمع: النظام الحالي لا يحل المشاكل، بل على العكس، إنه يولِّدها. وعلى هذا الأساس، وبالإشارة إلى خطابه السابق "العالم أكبر من 5 دول"، يؤكد أردوغان على تحيُّز بنية ومنظومة الأمم المتحدة، ويذكِّر بضرورة إعادة هيكلة النظام من أجل ضمان الأمن والسلام والازدهار. في رأيي، تساهم تركيا فعلياً في إعادة الهيكلة هذه من خلال سياستها الخارجية النشطة في القوقاز، كما فعلت في الحرب الروسية الأوكرانية وفي سوريا. وبهذه الطريقة، فإنه يوضح أن إعادة الهيكلة هذه لا يمكن إجراؤها من أعلى لأسفل، بل من أسفل لأعلى، وأن السلام والاستقرار يمكن تحقيقهما بهذه الطريقة، وأن عالماً أكثر عدلاً ممكنٌ بهذه الطريقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.