إذا قيل إن السياسي فلان أجهض مبادرة كذا السياسية فإننا نعني أنه أسقطها ومنع اكتمالها، فمعنى الإجهاض في الطب والقانون يعني خروج أو إخراج الجنين من الرحم بعد وفاته، أو قبل وصوله إلى مرحلة من العمر يمكن للطب فيها أن يساعده على استبقاء الحياة.
طالب الطب يدرس أن الإجهاض هو أحد مضاعفات الحمل وأكثرها حدوثاً، ويفهم أن منتج الحمل من أنسجة جنينية قد أصبح كلياً أو جزئياً خارج الرحم بشكل تلقائي أو بتحريض خارجي، يُستثنى من ذلك الإجهاض المفقود، ويُقصد بالإجهاض المفقود انتهاء حياة الجنين مع بقائه داخل الرحم، وبالتالي فإن الإجهاض لم يتحقق، وإن كان محتّماً أن يحدث تلقائياً أوعلاجياً.
فنسبة كبيرة من الإجهاضات التلقائية غير معروفة السبب، ومعظم العلاجات التي تُعطى لا تعتمد على برهان قوي، ولكن على الاستحسان، ولكن المطمئن أن نسبة عالية ممن عانَيْن من إجهاضات متكررة مجهولة السبب سيكتمل حملهن دون تدخل طبي مع الوقت.
عادةً ما يتعامل الأطباء مع الإجهاض إن اكتمل وإن لم يكتمل بالعلاج الطبي أو الجراحة، وبالاحتياط ضد النزيف، وضد الالتهابات الإنتانية التي قد تؤدي إلى الوفاة، أو إلى العقم، لو لم توجد الاحتياطات الوقائية.
لكن هناك وجوه أخرى لمشكلة الإجهاض، وخاصةً الإجهاض القصدي، وهو الإجهاض الذي تُطالب به الحامل، لأكثر من سبب، من هذه الأسباب عدم قدرة الحامل على رعاية الطفل بسبب الفقر أو اضطراب العلاقة الزوجية، أو نشوء الحمل من علاقة خارج الإطار الشرعي، مثل حالات الاغتصاب، والزنا بالتراضي أو بالخداع، وأحياناً بسبب وجود مرض وراثي يؤثر على قدرة الطفل على الحياة الجيدة، أو على الحياة مطلقاً، أو أنه يحتاج إلى رعاية لا تستطيع الأسرة توفيرها لكي يعيش، ومثل هذا كثير، خاصةً حين لا يقوم المجتمع بدعم هذه الحالات، كما ينطبق على أكثر مجتمعاتنا اليوم، وهنا تقع المشكلة الكبرى، وقد لا تكون خاصة بالفتاة الحامل ولا بأسرتها مع الزوج، ولا بأسرتها من حيث الأب والأم، ولا بالمجتمع الذي يتواطؤ مع ما يُسمى بجريمة الشرف، وهو أن يقتل الأهل فتاتهم الموصومة بالزنا، ويكون عقاب القاتل صورياً
الجدير بالتأمل أنه مهما كانت الخطيئة فإن العقاب الرباني يكون بالجلد وبالتغريب، وحتى حكم الرجم فهو لا ينطبق على الغالبية العظمى من هذه الحالات، بل إن عقوبة الرجم مشكوك في أنها عقوبة شرعية، الفقيه الشيخ عصام تليمة له كتاب مهم في هذا الموضوع، وهو "لا رجم في الإسلام".
قد يبدو غريباً أننا نتحدث عن الإجهاض، ثم نتكلم عن عقوبة الزنا، ولكن الأمر ليس كذلك، إذا تعرَّضت فتاة للاغتصاب، أو مارست الخطيئة ظناً بأنها تساعد نفسها للخروج من دائرة الفقر، أو أنها لم تلقَ تربيةً كافية تبتعد بها عن ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، وخاصةً في المجتمعات التي تشجع الاختلاط، فإن حدث الحمل كان دليل إدانة أمام المجتمع، هنا قد تلجأ الفتاة للإجهاض القصدي.
في الدول التي لا يُسمح فيها بهذا النوع من الإجهاض قد يساعدها طبيب، أو قابلة، سواء بنية حسنةٍ للستر، أو طمعاً في المال، أو تحت إجبار قوة هي في الأصل المسؤولة عن الحمل غير المشروع، وهنا يتفاقم الظلم على الفتاة، فهي عديمة الحيلة، لا سند لها، فإما أن تجد من يُجهضها، وإما أن تترك نفسها لتصبح ضحية لجريمة الشرف، أو تنحدر المسكينة إلى حيث تُدار عمالة الجنس، تعيش باسم جديد وبخطر جديد وبقهر جديد، وتختفي عن المجتمع، وتضيع من أهلها وما إلى ذلك من مآسٍ.
في الحالة السابقة إن وجدت الضحية سبيلاً للإجهاض فإنه عادة ما يحدث في الظلام، دون رعاية صحية كافية، ودون رعاية نفسية واجتماعية، وقد تنتهي المسألة بموت الفتاة خلال عملية الإجهاض، أوتُدمر حياتها نفسياً، وتنساق إلى الانتحار. ولعل البعض ما زال يتذكر المرويات في الريف عن الفتيات اللواتي أدخلن أعواد الملوخية إلى أرحامهن، وما يُسببه ذلك من مشكلات انتهت ببعضهن إلى الموت، اليوم تتوافر أدوية تساعد على الإجهاض، ولا يصعب الوصول إليها، ولكنها وإن جعلت الإجهاض أكثر أمناً من ذي قبل، إلا أنها قد تنتج عنها آثار خطيرة، أحدها هو الموت، وذلك لأنها تُجرى دون رعاية طبية.
عندما بدأت الهيئات الصحية في دول الغرب تبحث عن أسباب وفيات الأمهات، كانت حالات الإجهاض هذه من أهم الأسباب، للأسف لم تقم هذه الدول بالدعوة إلى العفة، والامتناع عن ممارسة الجنس خارج الأُطر الشرعية، ودعم الراغبين في الزواج، وإعطاء العقاقير التي تلجم الغريزة الجنسية مؤقتاً، حتى تجد التحرر المقبول، بل عالجت الأمر بتعليم الفتيات الصغيرات ممارسة ما يُسمى بالجنس الآمن، أي الاحتياط ضد الأمراض الجنسية، وأخذ موانع الحمل، وإتاحة الاستشارة الطبية لهن دون معرفة الأبوين، وفي حالة حدوث حمل توفر لهن العناية الطبية التي تسهل الإجهاض.
تؤكد هذه الدول أنها بذلك قللت من وفيات الأمهات الحوامل، و لكن هذا كله لم يقلل من وجود أُسر وحيدة العائل، تتحمل الفتاة المسكينة وزر خطئها، ووزر عدم تمكنها من الإجهاض القصدي، وعادةً ما يتكرر هذا الخطأ بسبب حاجة الفتاة إلى المال، أو حاجتها إلى الحماية، وتنساق إلى أخطاء أخرى من النوع نفسه.
ونصل في النهاية إلى أُم تركت الدراسة، غير مؤهلة للعمل، تعتمد على الإعانات المجتمعية الشحيحة، تتعرض للاضطهاد أكثر من شركائها في الجنس، وربما تطوَّر أمرها إلى إدمان المخدرات، وهكذا زادت حمولة المجتمع من التعساء وأكثرهم من الأطفال. رغم هذه الصورة التي تقطع نياط القلب، فإن دولاً أخرى وبينها أمريكا تضع قيوداً كثيرة ضد الإجهاض، دفاعاً عن الأسرة كما تقول، وبالمقابل فإنها لا تفكر في وضع حد للانفلات الجنسي.
لا نستطيع أن نقول إن العالم الإسلامي خالٍ من المشاكل التي أسلفنا ذكرها، إضافة إلى ما تتعرض له دُوله من ضغوط للأخذ بالحلول الغربية، التي لا تُناسب دين المجتمع ولا ثقافته، ولا أصلحت حال الدول التي أخذت بها. وقد شهدنا ما كانت تقدمه منظمة الأمم المتحدة في مؤتمراتها عن السكان.
وبحمد الله فإن أكثر المجتمعات الإسلامية قاومت هذه الضغوط ولا تزال. ولكن لا يجب أن نتغافل عن أن لدينا في هذا الموضوع مشاكل، وألا نترك الأمر ليصبح أمام الفتاة خيارات كل منها أسوأ من الآخر، أحدها اللجوء إلى الإجهاض خارج أطر الرعاية الصحية، وهو ما يشبه تعرضها للشروع في جريمة قتل، قد تنجح فتموت الحامل وتنفجر الفضيحة.
التعامي عن هذه المشكلة يضاعف من قسوتها، والظلم البيّن أن الذكور الذين شاركوا في الجرم يظلون بعيدين عن أيدي العدالة. وفي الواقع فإن العلم الحديث زوّدنا بإمكانيات تكشف لنا من هو الذكر الجاني، في الحالات التي تعرف المرأة من الذي خدعها، فإن الفحص الوراثي للجنين وللمتهم يؤكد أو ينفي بنسبة تصل إلى مئة في المئة العلاقة بينهما، لو أخذت المحاكم بهذا الأمر، فألحقت الطفل بأبيه البيولوجي نسباً والتزاماً بالانفاق، كما تفرضه أحكام الشريعة في حالات مشابهة، إذن لارتدع أكثر الذكور عن ممارسة الخداع الممتع، الذي لا يُحاسبون عليه، وتنوء بحمله الأنثى المخدوعة وحدها في أغلب الأحوال.
إن مجتمعاتنا بحاجة إلى تداول هذه المسألة على كل المستويات الثقافية والشرعية والطبية، بعيداً عن تبادل التُّهم. إن انخفاض مستوى الدخل، وتزايُد صعوبة الحياة، وعجز مؤسسات المجتمع المدني، ووقوعها تحت تأثير ممولين يروجون للثقافة الغربية، ستظل عائقاً عن إيجاد الحماية المجتمعية لنسائنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.