في يوم من الأيام تلقيت اتصالاً من زميل دراسة جامعية يخبرني فيه أنه موجود بمكان إقامتي ويود السلام عليّ قبل أن يغادر إلى مكة للعمرة ومنها إلى مصر، ففرحت بذلك الاتصال للغاية، لا سيما أننا لم نلتقِ منذ أن تخرجنا معاً من الجامعة.
ذهبت إلى مكانه حيث يسكن، وتوقعت أن أرى ملامح ذلك الشاب الجميل مع بعض التغييرات بفعل التقدم في العمر، لكني رأيت جسداً نحيلاً وشعراً أبيضَ كما لو أني واقف أمام رجل ستيني، فشعرت للوهلة الأولى بنغزة في صدري، وفوراً سألته عن السبب.
أخبرني صديقي أنه كان يعمل مدرساً في السعودية، وذات إجازة شعر بألم في جنبه، ولما ذهب للطبيب اكتشف أنه مصاب بالسرطان، حيث وجد الطبيب أن هناك ورماً خبيثاً يجب استئصاله بسرعة، ولما شرع الجراح في إزالة الورم وجد أن السرطان لامس كليته، فأزال الورم ومعه الكلية، ولما ذهب للمتابعة بعد شهر، وجد أن المرض قد وصل إلى فص من فصوص الغدة الدرقية، فقام الجراحون باستئصال الورم، وبعد فترة وأثناء المتابعة وجد الأطباء أن الورم لا زال موجوداً في البطن، فاستأصلوا ما استأصلوا، وفي كل مرة كان يتابع يجد أن المرض متمكن منه، ولم يعد هناك مجال للجراحة، فكان الحل تناول أدوية شديدة التأثير على مزاجه وصحته وعافيته، وكلما أكل شيئاً طردته المعدة فتسبب ذلك في نحول جسده وضعف بنيانه.
أثناء هذه الرحلة المرضية وخلال عمل السونار لزوجته قبل أن تلد بشهرين تقريباً، اكتشف الطبيب أن الجنين مشوه بدرجة كبيرة، فأخبره بذلك، وكان التحدي الأكبر كيف يوفق بين موعد متابعته في مركز الأورام وبين متابعة المولود بقسم جراحات الأطفال، أين يجد المال والوقت الكافي لذلك؟!
ولما وجدني مذهولاً من هول ما يقول: أخبرني أن ذلك لم يكن الابتلاء الوحيد، فالابتلاء الأكبر أن يرى أمه تبكي ليل نهار مخافة أن تفقد الابن الثالث والأخير، حيث مات قبله ولدان لأمه، وصاحبنا هو الولد الوحيد المتبقي، ولهذا كان يخفي عليها أنه ذاهب لعمل جراحة كبيرة، إذ كان يبرر غيابه بأن صديقاً له دعاه لرحلة للنقاهة.
العجيب في الأمر أن طيلة الساعات التي قضيتها مع صديقي لم أجد منه إلا ابتسامة رائقة صافية مرسومة على وجهه، ونفساً مملوءة بالرضا؛ وحالة من الهدوء التي تحيط بالمكان الذي كنا نجلس فيه على نحو جعلني أخجل من نفسي.
فذكرني صديقنا الحبيب بحال الكبار في العصور الأولى؛ ذكرني بعروة بن الزبير رضي الله عنه، لما قطعت رجله فقال : اللهم لك الحمد، كان لي أطرافٌ أربعة فأخذتَ واحداً، وأبقيت ثلاثة ولئن كنتَ أخذتَ فقد أبقيتَ، وإن كنتَ قد ابتليتَ فلطالما عافيتَ، فلك الحمد على ما أخذتَ وعلى ما عافيتَ، حتى لما سقط ابنه محمد من سطح على إسطبل فرفسته بغلة فمات وهو أحب أولاده إليه، فلم يزد عن قوله: اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، فلك الحمد.
اللافت أني قبل أن ألتقي بصديقي كنت أشعر بالقلق المحلى بالتوتر، بل كنت ضجراً من تحديات وصعوبات الحياة، علماً أني وبفضل من الله في رغد من العيش، فاستحقرت نفسي واستصغرتها، إذ لا يوجد أي سبب حقيقي لتصاب نفسي بالعلل والهموم والأحزان التي تكسر الفؤاد وتضعف العزم وتقصر الجهد.
لقد أدرك صديقي أن الله لم يبتلِه ليعذبه، بل ليربيه على السراء والضراء والسعادة والشقاء فيستخرج العبودية منه في كل أحواله، لقد أيقن أن الله يبتليه ليرفع قدره، ويريه كيف هي محبة الناس له.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.