الإسلام كشريعة لا يعترف بتوريث الحكم للأبناء، وذلك لأن الأمة ليست ملكاً للحاكم أو الرئيس يورثها لأبنائه بعد موته. والنصوص الخاصة بالفقه السياسي الإسلامي قليلة و محدودة و عامة و ليست تفصيلية، وذلك لأن نظم الحكم تتطور وتتغير بتغير المكان والزمان والأعراف. فيمكن وصف كثير من نظم الحكم بأنها إسلامية رغم الاختلافات بينها ما دامت ملتزمة بالقواعد السياسية الإسلامية العامة مثل العدل والحرية والمساواة وفرض الأمن، كما لا يمكن وصف نظام حكم بأنه إسلامي مهما رفع من شعارات إسلامية إذا كان نظاماً جائراً ظالماً مستبداً معطلاً للشورى ومصادراً للحريات.
لقلة النصوص، توسع الفقهاء الذين كتبوا في الفقه السياسي الإسلامي، مثل الماوردي في السياسة الشرعية وأبي المعالي الجويني في غياث الأمم، في الاستدلال بالوقائع التاريخية والأعراف السياسية القائمة في زمانهم. وأصبح الفقه السياسي الإسلامي مزيجاً من نصوص قليلة محدودة والكثير من الممارسات السياسية التي لاقت القبول في وقتها؛ لأنها كانت سمة عصرها، مثل التوريث وولاية العهد.
ما هي طريقة تولي رئاسة الدولة في الفقه الإسلامي؟
الأصل عند أهل السنة أن تولي هذا المنصب يكون بالاختيار وذلك مجمع عليه بين أهل السنة، ودليل ذلك اختيار الخلفاء الراشدين الأربعة، فلم يكن هناك نص قطعي على من يتولى الأمر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لمبايعة سعد بن عبادة، فلما سمع بهذا أبو بكر أخذ عمر وأبا عبيدة بن الجراح وذهبا لهذا الاجتماع.
وناقشهم أبو بكر في ما يقولون بأن خلافة النبي من حقهم فأقر بفضلهم ولكنه ذكرهم بأن هذا الأمر يجب أن يكون في قريش، ثم رشح لهم عمرَ أو أبا عبيدة ليختاروا منهما من يخلف النبي، ولكن عمر ذكرهم بأن النبي اختار أبا بكر ليؤم الناس في الصلاة، وذكرهم بأن أولى الناس بأمر نبي الله ثاني اثنين إذ هما في الغار، وطلب من أبي بكر أن يبسط يده ليبايعه فسارع رجل من الأنصار فضرب على يده مبايعاً ثم تبعه عمر ثم تكاثر الناس على أبي بكر لمبايعته.
ولم يكن هناك نص عن النبي صلى الله عليه وسلم ينص على من يتولى بعده وإلا التزم المسلمون بهذا النص، ولعدم وجود نص سارع الأنصار بترشيح سعد بن عبادة وناقشهم أبو بكر بالمنطق ورشح لهم عمر وأبا عبيدة ثم رشح عمر أبا بكر فبايعه الأنصار.
ولو كان هناك نص من النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لما رشح الأنصار سعد بن عبادة ولما رشح أبو بكر عمر وأبا عبيدة، ولو كان هناك نص على علي بن أبي طالب لسارع عليّ بإعلانه ولتمسك بوصية النبي ولتتبعه كل المسلمين.
كانت بيعة السقيفة بيعة مبدئية أو مجرد ترشيح بلغة العصر قضت على فتنة كان يمكن أن تحدث بين المهاجرين والأنصار في مهدها وفي اليوم التالي كانت البيعة العامة من جموع المسلمين في مسجد رسول الله، وبهذه البيعة العامة أصبح أبو بكر هو خليفة النبي.
إذاً وبلغة العصر كان هناك مرشحون للخلافة وتم التوافق على أبي بكر في السقيفة، ولكن لم يصر أبو بكر خليفة بهذا التوافق أو بترشيح من حضر في السقيفة، وإنما بعد أن رضي به المسلمون وبايعوه بيعة عامة في المسجد.
يتحدث الفقهاء الذين كتبوا في الفقه السياسي أن أول طريقة لتعيين الخليفة أو الإمام هي الاختيار، وهي محل إجماع عند أهل السنة، وإن اختلفوا في العدد اللازم من المبايعين، وإن كان الاتفاق على بيعة الكثرة الذين تتحقق بهم الغلبة، ثم تحدثوا عن الطريقة الثانية لتولي الرئاسة، وهي عهد الخليفة أو الإمام القائم لمن يخلفه، ولم يكن لهم دليل من الشرع سوى الممارسات السياسية في عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عهد بني أمية وبني العباس وإن زعم الإمام الجويني في كتابه "غياث الأمم" الإجماع على ذلك فهو مردود عليه، واستدلوا في المقام الأول على ذلك بعهد أبي بكر لعمر من بعده، ولكن فاتهم أن عهد أبي بكر لعمر لم يكن تولية لعمر من بعده وإنما ترشيحاً لعمر بعد مشاورة كبار الصحابة، ولم يصر عمر إماماً بعهد أبي بكر كما زُعِمَ وإنما صار عمر الخليفة برضا الأمة بهذا العهد وموافقتهم عليه وبيعتهم له، ولو عهد أبو بكر لعمر ولم يبايعه الناس لما أصبح عمر خليفة، بل إن أبا بكر صار إماماً بمبايعة أهل القدرة له وليس بعهد النبي كما ذكر ابن تيمية في منهاج السنة النبوية.
ولما طُعِنَ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أوصى بأن تكون الخلافة من بعده في الـ6 الباقين من الـ10 المبشرين بالجنة الذين توفي النبي وهو راضٍ عنهم، ورغم أن الباقي من العشرة كانوا 7 وليس 6، ولكن عمر لورعه وبُعد نظره استبعد سعيد بن زيد؛ لأنه ابن عمه ولئلا يكون هناك مظنة توريث للحكم، وبقي الاختيار بين الستة ولم يكن ذلك العهد من عمر تعييناً لواحد منهم بل مجرد ترشيح منه.
وحين اجتمع الـ6 المرشحون توافق 3 منهم أن يخرجوا أنفسهم من هذا الأمر وبقي الترشيح بين 3 هم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم جميعاً.
فاقترح عليهما عبد الرحمن بن عوف أن يخرج نفسه من الأمر على أن يوافقاه على من يختاره منهما فوافقاه على ذلك، فخرج عبد الرحمن فشاور أهل المدينة 3 أيام بلياليها لم ينم فيهما إلا اليسير ثم وجد بعد المشاورات أن أهل المدينة في معظمهم يفضلون بيعة عثمان فبايعه عبد الرحمن وبايعه علي ثم بايعه أهل المدينة، فهو لم يصِر خليفة بعهد عمر ولا بمشاورات عبد الرحمن رغم أهميتها وتمهيدها، ولكنه صار خليفة ببيعة الناس له.
وبعد مقتل عثمان بايع أهل المدينة علياً رضي الله عنه، وقال الحافظ ابن حجر: "وكانت بيعة علي بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فبايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر، وكتب بيعته إلى الآفاق، فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام، فكان بينهم بعد ما كان"، ولم يتأخر معاوية عن بيعة عليّ في البداية طلباً لأن يكون الأمر له ولكنه طلب الثأر من قتلة عثمان قبل أن يبايع عليّاً، وهذه البيعة تدحض حجج الشيعة بأن هناك نصاً على ولاية علي، فلو وجد هذا النص لاستغنى عليّ عن طلب البيعة وخاصة أنه رفض أن يبايعه من ذهبوا إليه في بيته وأصر على أن تكون البيعة عامة في المسجد.
عرف الخلفاء أن العهد وحده لا يكفي لتولي الأمر، وإنما لا بد من موافقة الأمة وبيعتها، ولهذا حرصوا على أخذ البيعة.
وأنه لا يمكن التحدي بالإجماع الديني؛ لأنه حتى لو قبل العلماء وعوام الناس بالعهد كوسيلة لتولي الأمر فلقد قبلوا به كواقع سياسي ناسب وقتهم وليس ذلك إجماعًا دينياً. كما أن الأخذ بعمل الأمويين والعباسيين وترك عمل الخلفاء الراشدين مخالف لما أوصى به النبي حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". فكيف نترك سيرة الخلفاء الراشدين لنتبع سيرة ملوك بني أمية وبني العباس؟
كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن خلافة النبوة ثلاثين عاماً ثم تكون ملكاً عضوضاً فهل نترك سنة الخلافة الراشدة ونتبع سنن الملك العضوض الذي ذكر في مجال الذم مقارنة بالخلافة الراشدة؟
ويظل الاختيار هو الأصل في تولية الرؤساء من المسلمين وتطبيقه في عصرنا هو الانتخاب الحر النزيه من بين مرشحين وتختار الشعوب منهم من تراه مناسباً لتحقيق الأمن والرخاء للوطن والمواطن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.