اندلعت في 27 أغسطس/آب 2023، سلسلة من الاشتباكات العنيفة في محافظة دير الزور السورية، الواقعة في شرق البلاد. وجاءت هذه الاشتباكات لتكشف عن واقع التفاعلات العدائية بين حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الإرهابية من جهة، والعشائر العربية في المنطقة من جهة أخرى. كان هذا النزاع في البداية مشكلة محلية، لكنه ما لبث أن تصاعد إلى صراع أوسع نطاقاً وأخطر تأثيراً، فامتد نطاق تداعياته إلى ريف منبج، وأثار التصعيد مخاوف متزايدة بشأن الاستقرار في الإقليم.
إن مسببات هذا الصراع متغلغلة الجذور في الخطوط الاجتماعية والسياسية المعقدة لسوريا. فقد انغمست وحدات حماية الشعب المرتبطة بحزب العمال الكردستاني -الذي صنفته كثير من الدول كياناً إرهابياً على مدى فترات طويلة- في مسعى طويل الأمد لتمكين نفسها من الحكم الذاتي الإقليمي، واتخاذ بؤرة محورية لهذا الحكم في شمال سوريا. إلا أن هذا المسعى كثيراً ما نشأت عنه احتكاكات وتوترات مع المجتمعات العربية، على اختلاف مصالحها وانتماءاتها التي ترتبط بها.
وتزيد مشاركة العشائر العربية من تعقيد هذا النزاع، فهذه التجمعات القبلية لها دور بارز في ترتيب الفسيفساء الاجتماعية والسياسية لشرق سوريا، وانتماءاتها وولاءاتها لها تأثير بالغ الشأن في مسار الأحداث الجارية. وإن توسع الأعمال العدائية من دير الزور إلى ريف منبج دليلٌ على الترابط القائم بين فواعل النزاع المختلفة، وإنذارٌ بأن هذه الاشتباكات قد تتحول إلى صراع أوسع نطاقاً تكون له تداعيات بعيدة المدى.
قال حمزة هاشيل، خبير الشؤون السورية في "مركز دراسات الشرق الأوسط" في أنقرة، إن "سبب الاشتباكات الأخيرة بين الطرفين هو اعتقال قوات سوريا الديمقراطية لأحمد الخبيل (المعروف بأبي خولة)، أحد قادة مجلس دير الزور العسكري التابع لها. وقد أشعل هذا التحرك النزاعات التي شهدناها بين قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب، والعشائر العربية".
ما الأسباب التي أفضت إلى الصراع؟
السؤال هنا: لماذا حدث هذا التصعيد في هذه المرحلة بالذات؟ والإجابة تقتضي أن نتحرى عن الآثار المستمرة لسياسة القمع والإقصاء التي تنتهجها قوات سوريا الديمقراطية داخل مجتمعات دير الزور وبين أهالي المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرتها. فقد شهدت هذه المجتمعات على مرِّ السنوات الماضية واقعاً مروعاً تخلله استعمال عناصر قوات سوريا الديمقراطية للقوة المميتة في وجه المتظاهرين السلميين. وكان لهذه الحوادث تداعيات مأساوية بلغت ذروتها بخسارة أرواح بريئة تحت ستار المساعي المبذولة لمحاربة "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش).
ومن ثم، فقد كان كل قتيل، وكل عملية إعدام نفذتها قوات سوريا الديمقراطية، عاملاً محفزاً أفضى إلى إثارة غضب السكان المحليين وإذكاء مقاومتهم. وكانت العاقبة الوخيمة لهذه التدابير أن صارت احتمالات العودة إلى الحياة الطبيعية، التي تخلو من إرهاب قوات سوريا الديمقراطية، أمنيةً بعيدة المنال يوماً بعد يوم.
ومن اللافت للنظر أن يوم 30 أغسطس/آب 2023، شهد تطوراً بالغ التأثير، وهو أن الشيخ إبراهيم الهفل، زعيم عشائر قبيلة العكيدات ذات النفوذ الكبير في محافظة دير الزور، التي تديرها قوات سوريا الديمقراطية، قرر الخروج عن صمته الذي طال أمده، وإعلان معارضته لهذه القوات. وجاءت المفارقة من أن الشيخ إبراهيم كان من أشد المدافعين عن قوات سوريا الديمقراطية، وتعرض حتى الآن لمحاولات اغتيال خطيرة على يد داعش، ومن ثم فإن رسالته الصوتية استنفرت تداعيات ممتدة التأثير في عموم المشهد بالإقليم.
والواقع أن قرار الشيخ إبراهيم بالإفصاح عن معارضته إنذارٌ بما يعتمل في النفوس من خيبة أمل، حتى بين المناصرين السابقين لقضية قوات سوريا الديمقراطية. وما أقدم عليه الشيخ من تحول مؤثر عن ولائه السابق يُضيف وجهاً آخر من التعقيد إلى بيئة تعج بالإشكالات المعقدة بالفعل.
ما الذي تحمله الأيام المقبلة؟
للحيلولة دون تفاقم الأمور أكثر من ذلك في شرق سوريا، أطلقت الجهات الفاعلة، مثل الولايات المتحدة والتحالف الدولي لمحاربة داعش، مطالبات علنية بوقف إطلاق النار. ومع ذلك فإن إنهاء الصراع لا يتوقف على الدعوات، بل تعتمد النتائج على تأثير هذه الجهات الفاعلة في قوات سوريا الديمقراطية والقبائل العربية. لكن مهما كانت النتيجة، فإن الواضح أن انعدام الثقة بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية سيكون أحد أبرز المحركات المؤثرة في الترتيبات الجديدة. والواقع أن استمرار نفوذ قوات سوريا الديمقراطية في مناطق القبائل العربية، أي على نحو يُناقض البنية الاجتماعية للمنطقة، يُشير إلى أن تأثير هذه التحركات سيزداد.
وفي هذا السياق، يقول حمزة هاشيل إن "التهميش الذي يتعرض له زعماء العشائر والأغلبية العربية بالمنطقة على أيدي قوات سوريا الديمقراطية، ووحدات حماية الشعب، التي تُعد العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية- يجعلنا نتوقع أن القبائل العربية ستدعم بنشاطٍ التحركات العشائرية في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية".
ويلفت هاشيل أيضاً إلى أن "الاشتباكات جارية في جميع المناطق التي يقطنها عدد كبير من السكان العرب، ما يعني أن هناك احتمالية بأن تتفاقم الأمور في كثير من مناطق دير الزور والرقة. غير أن تمركز القوات الأمريكية حول حقول النفط في دير الزور والرقة يمكن أن يكون حاجزاً أمام العشائر العربية. ومن المستبعد أن تُقدِم العشائر على أي تحرك ضد الولايات المتحدة".
لذلك، حتى لو انتهت هذه الجولة من الاشتباكات بين العشائر العربية وقوات سوريا الديمقراطية، فإن المشكلة الأساسية تبدو عصية على الحل. لأن الحل يقتضي إخراج قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من تنظيمات إرهابية، إخراجاً كاملاً من المنطقة. ومع ذلك، فإن الدعم الدولي لقوات سوريا الديمقراطية يمهد الطريق لاستمرار التوتر بين قوات سوريا الديمقراطية والعشائر العربية المحلية في المنطقة خلال الفترة المقبلة.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنه من الأهمية بمكانٍ دعم الجهات الفاعلة البعيدة عن الارتباط بأي فصيل من فصائل الإرهاب، من أجل إرساء الاستقرار والأمن إرساء راسخاً في المنطقة. ومع ذلك، وبالنظر إلى أن قوات سوريا الديمقراطية لن تسمح للجهات غير الإرهابية بممارسة نفوذها في المنطقة، فإن للقبائل في المنطقة دور أكبر تضطلع به. ولأن هذه القوى القبلية تُناهض الإرهاب، فلعل الطريق يُفتح أمامها لكسب الدعم الدولي. لكن على الرغم من كل ذلك، فإن هذه العملية لن تكون سهلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.