كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يحاول أن يفترض فكرة السلام الدائم العالمية، إذ رأى أن تحقيق هذا الهدف يمكن أن يتم عندما تلتزم جميع الدول في إطار المجموعة الدولية وتقيد نفسها بضرورة تحقيق السلام الدائم دون استثناء أي طرف أو مجموعة من هذا الالتزام. وأشار كانط إلى معادلة القضاء على جميع الجيوش كوسيلة لتحقيق هذا السلام الدائم.
ومع ذلك، نلاحظ أن هناك حقيقة واضحة تتعلق بعدم توازن القوة بين الدول، حيث تقوم بعض الدول بحجز حقها في امتلاك السلاح وتمنع الدول الأخرى من امتلاكه. هذا التوازن غير المتساوي في القوة يثير تساؤلات حول كيفية تحقيق السلام الدائم في العالم اليوم؟
شهد العالم أحداثاً مروّعة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن بين أبشع تلك الأحداث ما فعلته القنبلة النووية الأمريكية بهيروشيما وناجازاكي في عام 1945. حيث راح ضحيتها 140 ألف شخص من سكان هيروشيما البالغ عددهم 350 ألفاً، بينما قتل 47 ألفاً على الأقل في ناغازاكي، بالإضافة إلى عدد غير معروف من الضحايا بسبب الآثار المتعدية والمستمرة لتلك الهجمة الوحشية.
هذه الهجمة الوحشية أدت إلى وقف الحرب، وتشكُّل مجتمع دولي جديد من قبل المنتصرين في الحرب يرفع شعار تحقيق السلام والأمن الدوليين، ويضعه كمبدأ يسترشد به في العلاقات بين الدول. ومع ذلك، لم تكن هذه الجهود كافية لوقف النزاعات والحروب بشكل نهائي، ولم تمنع حالة التسابق على التسلح والتنافس في مجال السلاح النووي وإجراء تجارب نووية.
لا شك أن المجتمع الدولي لم يدخر جهداً في محاولة تقييد التنافس المحموم بين القوى الدولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945. حيث أبرمت مجموعة من الاتفاقيات لهذا الغرض، ومن بين أهمها اتفاقية الحظر الجزئي للتجارب النووية في عام 1963. ومع ذلك، لم تكن هذه الاتفاقية قاعدة قوية لبناء الثقة بين الأطراف الموقعة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق.
مع مرور الزمن، أسهمت اتفاقية الحظر الجزئي للتجارب النووية في تشكيل أساس لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية التي تم فتح مجال التوقيع عليها في عام 1996. هذه المعاهدة كانت لها أهمية كبيرة في تقييد انتشار التجارب النووية وتحقيق أهداف تعزيز الأمن الدولي والسلم.
كما أنه تم طرح معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية عام 1968، وهي معاهدة تميز بين حق الدول في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية وحق مجموعة من الدول في امتلاك السلاح النووي وتقييد ذلك الحق. هذا الاختلاف ينتهك مبدأ المساواة بين الدول. من أجل التحكم في هذا الوضع، حاول مجلس الأمن الدولي إصدار تطمينات للدول غير الحاصلة على سلاح نووي من خلال بعض القرارات. إلى جانب ذلك، تأسست الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1957 للرقابة والتفتيش على تطور الأسلحة النووية، وتم إنشاء أكثر من 300 محطة لنظام الرصد الدولي حول العالم.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن هذه الجهود قد أوقفت بشكل كامل سباق التسلح النووي أو جعلت جميع الدول تتوقف عن إجراء التجارب النووية. ما زالت هناك تحديات كبيرة تتعلق بالانتشار النووي والضغوط السياسية والأمنية التي تؤثر على سلوك الدول في هذا الصدد.
من خلال استعراض تاريخ التجارب النووية في العالم، يمكننا ملاحظة وجود فترتين رئيسيتين تختلفان فيهما من حيث كثافة التجارب النووية والدول التي سمحت بها. الفترة الأولى تمتد من عام 1945 حتى عام 1996، وفي هذه الفترة، قامت أغلب الدول الحاصلة على أسلحة نووية بإجراء تجارب نووية، سواء داخل حدودها الوطنية أم خارجها، سواء تحت الماء أم تحت الأرض أم في الغلاف الجوي أم حتى في الفضاء الخارجي.
أما الفترة الثانية، فتمتد من عام 1996 حتى عام 2017، وفي هذه الفترة، قلَّ عدد الدول التي أجرت تجارب نووية بشكل كبير، وكانت هناك أقل كثافة في التجارب مقارنة بالفترة السابقة.
بشكل عام، وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، فخلال العقود الخمسة بين ذلك اليوم المميت في عام 1945 وافتتاح التوقيع على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية في عام 1996، تم إجراء ما يزيد عن 2000 تجربة نووية في جميع أنحاء العالم. وتتصدر الولايات المتحدة الأمريكية القائمة بحوالي 1032 تجربة نووية، تليها روسيا بـ715 تجربة، ثم فرنسا بـ217 تجربة، منها 17 تجربة في الصحراء الجزائرية، ثم تأتي الصين بـ45 تجربة نووية، آخرها كان في عام 1996. بريطانيا أيضاً قامت بالعدد نفسه من التجارب. كما أجرت كوريا الشمالية 5 تجارب، آخرها كان في عام 2017. وعلى الجانب الهندي والباكستاني، قامت كل منهما بتجربتين. أما الكيان الإسرائيلي، فهو يحتفظ بترسانته النووية ولم يعلن عنها رسمياً للعالم.
تشير هذه الأرقام إلى وجود أزمة حقيقية فيما يتعلق ببعض الدول التي تسعى بجدية لتطوير قدراتها العسكرية النووية، سواء بمفردها أم من خلال تعاون مع دول أخرى. تأتي هذه الأزمة نتيجة عدم تنفيذ اتفاقية الحظر الشامل للتجارب النووية لعام 1996، التي تتطلب مشاركة 44 دولة في الاتفاقية. على الرغم من توقيع 186 دولة وتصديق 178 دولة على هذه الاتفاقية، إلا أن هناك 8 دول ما زالت تعترض على هذه الاتفاقية وتمتنع عن الالتزام بها، وهذه الدول هي: الولايات المتحدة الأمريكية والصين وباكستان والهند وإيران ومصر وكوريا الشمالية والكيان الإسرائيلي.
تجدر الإشارة إلى أن كوريا الشمالية انسحبت من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية لعام 1968 في عام 2003، وأيضاً انسحبت الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى التي دخلت حيز النفاذ في عام 1988، وكذلك من الاتفاقية المبرمة بين إيران عام 2018؛ ما يزيد من المخاوف المتعلقة بالتسابق والتنافس فيما يتعلق بامتلاك أسلحة نووية قوية ومدمرة على نطاق واسع.
إن توقف التجارب النووية يعتبر خطوة مهمة للحد من انتشار الأسلحة النووية، حيث يحذر تطوير أو نقل التكنولوجيا النووية إلى دول أخرى لإجراء تجارب نووية. وهذا هو السبب وراء عدم دخول الاتفاقية حيز التنفيذ. لمواجهة هذا التحدي، حاولت الأمم المتحدة من خلال قرار الجمعية العامة الصادر عام 2009، التأكيد على القيمة الأخلاقية والإنسانية لوقف التجارب النووية كقيمة دولية، فتم تخصيص اليوم الدولي للحد من التجارب النووية في 29 أغسطس/آب، وهو يوم يذكر فيه إغلاق آخر مفاعل نووي بصورة إرادية في كازاخستان عام 1991، بعد أن ورثته عن الاتحاد السوفييتي السابق الذي أجرى أكثر من 450 تجربة نووية في منطقة سيمبالاتنسيك.
رغم ذلك، تشير كل هذه الجهود إلى أن العالم لم ينجح حتى الآن في تحقيق تقييدات فعالة على التسلح النووي، وبعض الدول لا تلتزم بأي التزام دولي أو إنساني يقيد تطويرها واستخدامها للأسلحة النووية؛ ما يعرقل السلم الدائم الذي طرحه كانط، إذ يبدو أنه صعب التحقق حتى وإن كان مقنِعاً، وذلك راجع لكون الحكومات اليوم ترفض الالتزام بما يتعارض ومصالحها الخاصة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.