خصَّصت مجلة لانسيت البريطانية في أحد أعدادها الأخيرة، إحدى افتتاحياتها لاكتئاب الولادة، وذلك بمناسبة ظهور عقار نافع وآمن يساعد على الشفاء، ولكنها حذرت بأن الابتهاج بوجود عقار جديد لا يجب أن يُخفى عنا حقيقة أن هذا المرض ما زال يفتقر إلى الاهتمام اللازم لاكتشافه والتعامل معه، كما أن العلاج الدوائي ليس هو الخط العلاجي الأول في هذه الحالات.
اشتهر بين الجمهور اكتئاب ما بعد الولادة، ولكن هذا الاكتئاب في الحقيقة ليس إلا امتداداً لأعراض بدأت تؤثر في صحة الأم منذ مرحلة ما قبل الولادة، إذن فهي لا تختص بما بعد الولادة. المشكلة التي لم يتم التعامل معها بعد هي وضع اختبارات كافية لتشخيص هذه الحالة في حينها، وقبل تفاقم الوضع نحن بحاجة إلى إدماج برامج لتشخيص هذه الحالات والتعامل معها، ضمن برامج رعاية الأم والطفل.
تختلف نسبة المصابات بهذا النوع من الاكتئاب بين مختلف الأقطار، يقدر حدوثه بنسبة 22% من الأمهات في إنجلترا، بينما لا يزيد معدله عن 11% في نيوزيلندا، وفي جنوب أفريقيا يزيد معدل حدوثه عن 30%، ولكنه في تنزانيا يحدث عند 12% من الأمهات. تبقى كثير من الأقطار خالية من أي معلومات عن هذا المرض، ولكن حالات الانتحار التي تنشأ بسببه تشكل نسبة رئيسية لوفيات الأمهات بعد الولادة في أمريكا وإنجلترا.
يرتبط حدوث هذا النوع من الاكتئاب بالفقر، وانخفاض المستوى الاجتماعي، والافتقار إلى الدعم النفسي والأسري، والعنف الأسري، والأسوأ أن من هن أكثر عرضة له هن اللواتي لا تتاح لهن الاستشارة الطبية مبكراً، ونظراً للافتقار إلى البرامج التشخيصية الفعالة فما زال تشخيصه يعتمد على قدرة المريضة على التعبير ومهارات الطبيب، وهذا لا يكفي، فإن المجتمعات التي تفترض أن الإنجاب حدث سعيد في حياة الأم والأهل يبعد الأنظار عن حقيقة أعراض الأم، واعتلال مزاجها.
هل نعرف نسبة حدوث هذه الحالات في مجتمعاتنا العربية؟
هناك بعض الدراسات، إحداها مثلاً أُجريت على مجموعة من السيدات اللواتي راجعن مركزاً للصحة الأولية في محافظة القليوبية بمصر، في فترة الأسابيع الستة بعد الولادة، أجبن عن مجموعة من الأسئلة تتعلق بمعاناتهن مع القلق أو الاكتئاب بعد الولادة، وقد أظهرت أن حوالي 20% عانين من أعراض للقلق والاكتئاب معاً، وأن نسبة أخرى تعرضن لواحد منهما فقط، وهذا دليل على وجود المشكلة، ولكن لأن الاستبيان تعلق بمراجِعات حضرن بأنفسهن لأحد المراكز الصحية، فإن حجم المشكلة بحاجة إلى استقصاءات أخرى تشمل اللواتي لم يقمن بمراجعة المراكز الصحية.
كثيرون يفترضون أن حدوث هذه الحالات عندنا قليل؛ نظراً لتوفر الدعم الأسري، لكن هذا الافتراض ليس صحيحاً بالضرورة دون دراسات تؤكده، ولعل مشاعر التدين تساعد في التغلب على فكرة الانتحار، لكن ذلك لا يمنع من وجود معاناة لدى كثير من الأمهات، تستمر طويلاً وتؤثر على معنوياتهن، وقد تؤدي إلى إخفاق نسبي في تعامل الأم مع وليدها، لا تظهر آثاره على الطرفين إلا بعد أن يفوت زمن الإصلاح.
الكاتبة التركية إليف شافاق لها رواية اسمها حليب أسود، وهي تشرح مشاعر أمّ حديثة الولادة، تنتابها نوبات اكتئاب ما بعد الولادة، والكاتبة تعطي انطباعاً بأنها كانت تتحدث عن مشاعرها الشخصية، إذ تستسلم شافاق في النهاية لساعة البيولوجيا، زواج متأخر حملت معه مرتين، مرت أشهرها الثمانية الأولى بعد الحمل الأول في صراع مع لورد بورتون، أي مع اكتئاب ما بعد الولادة، عبرت شافاق ببراعة فنية عالية عن مرحلة تمر بها الكثيرات من النساء، صراع مرير بين الأم ونفسها ومع طفلها وعلى طفلها، مع جهلها ومعلوماتها، لكنها تفوز في النهاية بالشفاء، ورغم أن الشفاء يعتمد على الكثير من العلاجات أهمها قوة الشخصية وتماسكها، لكن إليف التي لا تعرف الادعاء تمر فيها بغير بطولة وبغير هزيمة، وتنتهي بترميم روحها وفنها وأمومتها.
ترى لو أتيح لأمهاتنا التعبير عن مشاعرهن، إذن يمكننا أن نخرج بمروية طبية وإنسانية، تجعلنا أكثر قدرة من كافة النواحي على تقديم الرعاية الصحية الفاعلة لبناتنا وأطفالنا.