تُجمع كل الديانات والشرائع السماوية والقيم النبيلة للمجتمعات على مقت العنصرية كسلوك إنساني غير سوي، بل قد تصنف العنصرية من ضمن دائرة الأمراض النفسية التي تحتاج إلى معالجة للعودة للنهج الإنساني القويم.
لم يأت هذا الإجماع من فراغ، بل إن العنصرية حاضرة وقديمة قدم البشرية، فأبو البشر آدم -عليه السلام- كان أول ضحايا العنصرية، وقد صوّر القرآن الكريم الموقف العنصري الذي تعرّض له عندما رفض إبليس السجود له بردّ إبليس {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}!
إنه رد تنبعث من ثناياه النظرة الفوقية الاستعلائية وحب الأنا {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} وتتعمق في بواطنه النظرة الدونية للطرف الآخر {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين} ومتشرب بالغيرة والحسد، كيف لجميع الملائكة أن تسجد لآدم؟ وعلى قدر الخطيئة يكون العقاب، فكان العقاب الالهي لهذه العنصرية {…فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}.
اذاً فالعنصرية لها ركيزتان هما الاستعلائية الفوقية للذات، والنظرة الدونية المحتقرة للطرف الآخر، ولكن ما يشعلها ويجعلها تطفو على السطح ويؤجج لهيبها هو الغيرة والحسد.
الأتراك والعرب وأزمة العنصرية
على مدى قرون عاش الأتراك والعرب في انسجام ووئام في كنف الدولة العثمانية إلى ما قبل قرن من الزمان، صحيح أن بينهما فروقات واختلافات شكلية في العادات ونمط الحياة والتقاليد، ولكن ما يجمعهم جوهرياً هو أكثر مما يفرقهم شكلياً، وكانت هذه الاختلافات فيما بينهم تشكل نقاط قوة وإثراء ومفتاحاً لتعدد الخيارات.
كان العرب يشكلون الإطار المرجعي والديني للأتراك، وكان الأتراك يشكلون عمقاً استراتيجياً للعرب وأقرب جيرانهم إليهم، وهكذا يفترض أن تظل العلاقات بين الشعوب. ولكن منذ أن حلّت المؤامرة على الدولة العثمانية لتفكيكها وإسقاطها واتباع سياسة فرّق تسُد بين شعوبها، عملت الجهات المستفيدة من إسقاط الدولة العثمانية على إشعال الفرقة وتأجيج العنصرية بين العرب والأتراك وبنت جدار عزل فكري بينهم، وظلت شيطنة العرب والأتراك بعضهم لبعض مستمرة من قبل الأنظمة الوليدة عن سايكس بيكو وأذرعها الإعلامية والتعليمية في البلدان العربية والنظام العلماني في الأناضول، الوليد عن اتفاقية فرساي وأذرعه الإعلامية والتعليمية.
لقد تمت شيطنة العرب على مدى عقود متتالية في تركيا أنهم من خانوا الدولة العثمانية وكانوا سبب هدمها، وكذلك الحال على مدى عقود متوالية تمت شيطنة الأتراك أنهم كانوا يهينون العرب وارتكبوا بحقهم أبشع المجازر، ولذلك على مدى أجيال بُني جدار من العزلة والانغلاق والانكفاء والتوجس بين العرب والأتراك، فتوجهت تركيا نحو أوروبا، أما العرب فقد صُنعت لهم اتجاهات أخرى مزقتهم وبذرت بذور الفرقة والخلاف فيما بينهم.
منذ مطلع القرن الحالي بدأت تركيا تعود إلى حاضنتها الإسلامية وتتقارب مع عمقها وامتدادها الديني والثقافي وإطارها المرجعي الجيوسياسي العربي، فقابل ذلك بوادر انسجام وتآلف عربي تركي وبدأت الاستثمارات العربية تدخل تركيا وبدأت البضائع والصناعات التركية تتواجد في الأسواق العربية، وازدادت وتيرة السياحة بين البلدان العربية وتركيا، وبدأ عصر جديد من التكامل التركي العربي والانسجام بين الشعوب العربية والشعب التركي وتجلى هذا التناغم والتعايش الفريد في فتح تركيا حدودها أمام ملايين السوريين؛ ليجدوا ملاذاً آمناً ويعيشوا في تركيا كأنهم في سوريا ويقابَلوا بكل ود وترحاب.
ولكن يبدو أن القوى المتربصة والمتأبطة شراً بالعرب والأتراك وهي متواجدة بين العرب وبين الأتراك لم يرُق لها ذلك، وبات يؤرقها هذا التقارب والتكامل والتوحد والاندماج بين العرب والأتراك، فأبت إلا أن تمارس سياستها لنشر التشرذم وزرع بذور الشقاق والفرقة والفتنة بين العرب والأتراك، خصوصاّ أن الأرضية مهيأة لهذا، فما تم زرعه في العقول عبر عقود من الزمن ما لبث إلا أن أظهر نفسه ببشاعة عند أول امتحان تتعرّض له العلاقات التركية العربية.
شاهدنا جميعاً مقاطع لمواقف عنصرية فجة مستنكرة تجاه العرب في تركيا في مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة، وهي تصرفات فردية مع تضخيمها إعلامياً ضمن أجندة خبيثة، ولكن أيضاً وجودها بهذا الشكل والتسلسل يبعث على القلق، ويؤكد أنها ممنهجة، وأن هناك جهات تقف خلفها وتعمل على إشعالها. حري بنا ويجب على كل منا أن يقوم بواجبه للحفاظ على العلاقة الوطيدة بين العرب والأتراك، ومنع تفاقم الفرقة بينهم لكي لا ينهدم جدار المودة والصفاء ويتحقق ما يصبو إليه المتربصون والمتأبطون بهم شراً.
الجالية العربية في تركيا
بدأت الجالية العربية تتركز وتزداد عدداً في تركيا منذ العام 2011 لأسباب عديدة، منها ازدهار الاقتصاد التركي، وانفتاح تركيا كما ذُكر آنفاً، وأيضاً لأسباب جيوسياسية تعصف بالبلدان العربية. وطوال هذه السنوات عاش الجميع في وئام وانسجام تامين، ولكن بدءأً من سنة 2023 بدأت تتزايد العنصرية تجاههم، فلماذا الآن، وليس قبل سنوات؟
نستطيع أن نجد أن هناك 5 أسباب دفعت العنصرية ضد العرب للطفو مجدداً على السطح في تركيا:
أولاً: الغضب العارم من قبل بعض العلمانيين بعد خسارتهم في الانتخابات الأخيرة، حيث بدأوا يفقدون الأمل ويرون أن سبب فوز حزب أردوغان هو منحه أصوات العرب الذين حصلوا على الجنسية التركية، وأن العرب باندماجهم في المجتمع التركي يقللون نسبة العلمانيين ويحرموهم من إعادة إحياء مشاريعهم والوصول إلى السلطة مجدداً في تركيا، ولذلك فهم يرون إذا ما استمر الحال للعرب في التواجد في تركيا والاستقرار فيها فسيتكاثرون ويصبح العلمانيون أقلية لا صوت لهم، ولذلك فالعلمانيون، وبمساعدة الدولة العلمانية العميقة في تركيا التي بنت نفسها على مدى أكثر من 100 عام بدأوا هذه الهجمة الممنهجة لإذكاء نار العنصرية، بل استغلوا كثيراً من الثغرات القانونية لإضرام نيران العنصرية واستهداف العرب في شتى المجالات، ومنها إزالة لافتات المحلات العربية ومنع تشغيل بعضهم ومنع الإقامة وتأخيرها عن البعض الآخر، وغيرها من التصرفات والسلوكيات العدائية مثل التعامل السيئ في المطارات، وهم بهذه التصرفات لا يفرقون بين السائح والمقيم، بل يرون السائح كمشروع مقيم دائم قادم إذا ما جاء واستمتع بتركيا وأعجبه طيب المقام بها، فلذلك هم أيضاً يستهدفون السياح.
ثانياً: الارتباط الروحي للأتراك بالدين الإسلامي وهذا أيضاً من أهم الأسباب، فبعض العلمانيين في تركيا يتربون منذ نعومة أظفارهم في طفولتهم على كراهية الدين الإسلامي والمسلمين، مع أنهم أساساً مسلمون، ولكن يرون أن الدين يجعلهم مقيدين متخلفين، ويكون عائقاً لهم للتطور الحضاري من وجهة نظرهم ويمنعهم من الاندماج مع المجتمعات الأوروبية واللحاق بركب أوروبا والغرب، ولذلك يرون أن الشخص الحداثي الليبرالي المثقف المتطور يجب أن يبتعد عن الدين الإسلامي لردم الفجوة بين المجتمع التركي والغربي.
وأيضاً يجب على النساء ألا يلبسن الحجاب، وألا يكون للرجال لحية مثلاً، كما أن بعض العلمانيين ينزعجون من مظاهر العرب المحافظين ونسائهم المحافظات في تركيا، ويرون أن هذا غزو فكري ثقافي لهم.
يعني ذلك أن مشكلتهم مع المسلمين الذي يطبقون شروط الدين فقط، لأنهم عائق أمام مشروعهم، وبتواجد العرب والأتراك المتدينين تزداد شوكة الدين الإسلامي ويواجه مشروعهم خطر الفناء، ويرون أن العرب هم المغذي الفكري للمتدينين الأتراك، ولهذا يجب أن يحاربوهم، ومن ضمن محاربتهم نشر العنصرية ومعاملتهم باستعلاء، لأنهم حسب دراستهم النفسية للإنسان العربي، فهو معتز بكرامته ولا يطيق البقاء بأرض تُمس فيها كرامته.
ثالثاً: كما أسلفت سابقاً، فالاقتصاد عامل أساسي للمصالح المشتركة والاستقرار والتعايش بين الشعوب، ومع هبوط قيمة الليرة التركية والظروف الاقتصادية والسياسية العالمية، حدث تضخم اقتصادي عالٍ، وارتفاع للأسعار في كل مناحي الحياة؛ حيث إن الاقتصاد أيضاً يخضع للعرض والطلب، فإنه ومع وجود جاليات عربية في إسطنبول زادت أسعار إيجار البيوت، وزاد بهذا العبء على المواطن التركي، وفي ظل وجود شيطنة إعلامية ممنهجة، أصبح يشعر بعض الأتراك أن وجود العرب سبب أساسي في سوء أحوال الحياة والمعيشة.
رابعاً: الجانب التعليمي، فالمؤسسة التعليمية ليست مستقلة في تركيا. فتاريخنا كتبته أيدي الناس الذين دعمهم عدونا وسلمهم رقابنا، وسيطروا على إرث الدولة العثمانية، وسلخوا تركيا عن محيطها وعمقها الاستراتيجي الأصيل، وفي المدارس لا يزال التلاميذ يتعلمون دائماً في الكتب المدرسية أن العرب خانوا الدولة العثمانية، والإعلام يقوم بهمة عالية في نشر هذا الرأي، ليس حباً في الدولة العثمانية والأسف لسقوطها، ولكن لخلق الفتنة بين العرب والأتراك وضمان بقائهم متفرقين.
خامساً: اختلاف بعض العادات والتقاليد بين العرب والأتراك.على سبيل المثال، أن أغلب العائلات العربية تتكون من عدد كبير من الأطفال، كما أن حياتهم الاجتماعية أكثر نشاطاً، فتجد أن لديهم جلسات طويلة وسهرات ولقاءات كثيرة، في حين أن حياة الأتراك في إسطنبول مبنية على نظام العمل وساعاته. وعندما بدأ العرب والأتراك يعيشون جنباً إلى جنب وأصبحوا جيران في السكن، برزت بعض الاختلافات، فبعض العرب لا ينامون مبكراً ويسهرون في لقاءات اجتماعية، وبسبب عائلاتهم الكبيرة وتحدثهم بأصوات عالية فهم يسببون إزعاجاً لجيرانهم الأتراك الذين ينامون باكراً لكي يستيقظوا باكراً للالتحاق بأعمالهم وبهذا يواجه الأتراك صعوبة في النوم والراحة في منازلهم، خصوصاً أن بعض الاتراك، وهم نسبة لا يُستهان بها، قد هاجروا داخلياً إلى إسطنبول بحثاً عن حياة أفضل، فيتفاجأ بمعوقات تمنعه من العمل والعيش براحة.
كل هذا في ظل وجود نسبة كبيرة من اللاجئين السوريين الذين لربما لأول مرة يجربون العيش مع جنسيات مختلفة، ولأول مرة يتعايشون مع عادات وتقاليد مختلفة، ولذلك هم يستغربون في بعض الأمور عندما يعرفون عنها، ولا نلومهم فهم يمرون بأوضاع صعبة.
فماذا يجب على الأتراك والعرب فعله؟
أولاً: يجب على الحكومة التركية أن تضع قوانين صارمة تجاه أي تصرف عنصري بالقول أو بالفعل أو الإيحاء تجاه المقيمين والسياح العرب، وعلى الجاليات العربية العمل على نشر الوعي بين أفرادها.
ثانياً: يجب على الحكومة التركية أن توقف هجرة العرب والأتراك إلى إسطنبول فترة معينة؛ حتى تتم استعادة جميع الخدمات وجودتها، ويصبح هناك تناسب بين العرض والطلب والأسعار والقدرة الشرائية، لكي لا يشعر أي فرد في إسطنبول بالعجز، وفي هذه الفترة يجب مراقبة أسعار الإيجارات ومراقبة التجار والمحلات، والعمل على ضبط الجودة لكل المنتجات، وتوفير وزيادة حجم المعروض من السلع والخدمات.
ثالثاً: العمل على تبني سياسة إعلامية ونشر الوعي ونشر مواد إعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية عن الأشياء المشتركة بين العرب والأتراك، وإبراز الدور العربي والاستثمارات العربية في نهضة الاقتصاد التركي، وخلقه لفرص العمل للأتراك في جميع وسائل الإعلام المتاحة، ومنع استضافة العنصريين من السياسيين في البرامج التلفزيونية وجميع الوسائل الإعلامية، وتفعيل الأنظمة والقوانين التي تحض على الكراهية واستحداثها إن لم توجد. كما يجب تبني مشاريع توعوية تشجّع على السفر للبلدان العربية والتقارب مع شعوبها.
رابعاً: تفعيل القوانين النافذة لمحاربة الشائعات، ومنع نشر الأخبار الكاذبة أو التي تقتطع جزءاً من الحقيقة وتوظفه توظيفاً خبيثاً، مما يخدم العنصريين وأجندتهم في إحداث أزمة ما بين العرب والأتراك في تركيا.
خامساً: يجب على المجتمعات المحلية التركية والعربية أن تنظم فعاليات مشتركة بين الأتراك والعرب، خصوصاً من فئة الشباب، لزيادة الاندماج الاجتماعي فيما بينهم، ويجب على الحكومة التركية والسفارات العربية دعم هذه الأنشطة؛ لما فيه الصالح العام للجميع.
سادساً: يجب على السفارات التركية في البلدان العربية القيام بواجبها وتكون أكثر نشاطاً وفعالية، وأن تعمل على نشر الصورة الإيجابية بين العرب عن تركيا وتبني أنشطة ثقافية ومهرجانات تسويقية تركية تشجّع العرب على زيارة تركيا واستهلاك المنتجات والصناعات التركية. كما يجب على السفارات التركية والجاليات التركية التي تعيش في البلدان العربية أن تفند أي كذب أو تحوير للحقيقة تبثها وسائل إعلام أو شخصيات محرضة مغرضة تهدف إلى تعميق الفجوة الاجتماعية بين العرب والأتراك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.