حدث هذا قبل سنوات، في تلك الليلة كنت أقود السيارة وبرفقتي ابني الأكبر، الذي كان وقتَها في التاسعة من العمر تقريباً، كنا قد انتهينا من مشوار مرهق لشراء بعض الأغراض، وكنت أرغب في العودة للبيت في وقت مبكر، والحقيقة أن الوقت لم يكن متأخراً، لكن في شتاء ألمانيا يحل الظلام في وقت مبكر للغاية، بحيث يتلاشى الضوء "وليس الشمس!"، وينشر الظلام عباءته السوداء في كل مكان بمجرد دخول الساعة الخامسة عصراً!
في الطريق تنامى إلى سمعي أصوات غريبة تُصدرها السيارة، لكن لم أتمكن من تحديد مصدر الصوت، هكذا أوقفت السيارة على جانب الطريق وترجلت كي أرى ما هناك. فتحت غطاء المحرك، وبدا لي كل شيء على ما يرام، توجهت إلى الخلف لأفتح الحقيبة الخلفية، ونسيت أن الحقيبة مليئة بالأغراض والأدوات التي حشرتها كيفما اتفق، هكذا بمجرد أن انفتح غطاء الحقيبة سقطت على الأرض "فازة" زجاجية صغيرة، يبدو أن حركة السيارة جعلتها في وضع اتزان حرج، وعلى الفور تحطمت وتناثرت قطعها على الأرض.. يا للأسف! ستشعر زوجتي بالحزن، لكن لحسن الحظ كنتُ قد اشتريت فازتين من النوع نفسه، إحداهما انكسرت والثانية سليمة.
انحنيت على الأرض لألتقط بقايا الزجاج وتلفّت حولي، الشارع الذي توقفت فيه مقفر، والجو بارد، ولا يوجد في الجوار أي صندوق للنفايات، كما أن الحاويات التي تخصص لبقايا الزجاج توضع في أماكن معينة في المدينة، فلا يجدها المرء في كل مكان وكل ركن مثل حاويات القمامة العادية، لذلك بعد تردد وجيز وضعت الجزء الكبير المتبقي من الفازة والذي لم يتشظَّ في حقيبة السيارة بحرص كي أتخلص منه لاحقاً، وجمعت قطع الزجاج القليلة (ثلاث أو أربع قطع صغيرة لا أكثر)، التي تناثرت على الأرض، واتجهت إلى قاعدة إحدى الأشجار البعيدة عن الشارع وحفرت بيدي التربة الجافة، لأصنع حفرة كبيرة وضعت فيها قطع الزجاج، ثم أهلت عليها المزيد من التراب كي تختفي تماماً. كان هذا هو الحل الوحيد الذي قفز إلى رأسي، وفرضته الظروف الوقتية والطقسية، لكن ابني الذي ترجّل بدوره من السيارة ورآني أتخلص من بقايا الزجاج بهذه الطريقة لم يتحمل الموقف، ووجدته يسألني باستغراب ممزوج بنبرة استنكار عن الذي أفعله! قلت له وأنا أرتجف من البرد "أتخلص من قطع الزجاج الصغيرة كما ترى، بهذه الطريقة لن يتأذى أحد من الناس"، وكان الرد المباشر الذي قاله ابني الصغير صادماً لي بحق، حين قال بنفس النبرة الاستنكارية "لكنك بهذه الطريقة تؤذي البيئة يا أبي!".
ما قد لا يعلمه من يعيش خارج ألمانيا هو أن موضوع البيئة والحفاظ عليها هو من أكثر المواضيع اهتماماً ومتابعة وحساسية في ألمانيا، حتى إن بعض الأحزاب السياسية المؤثرة تستخدم هذا الموضوع كأجندة رئيسية لها، وتستقطب على إثره أصوات ملايين من الناخبين. وهناك أحزاب تسقط في الانتخابات كنتيجة غير مباشرة لهذا الموضوع المتعلق بالبيئة وتوابعها، وهناك العديد من القوانين والتعديلات التي تتبناها الحكومة الألمانية، وكلها تهدف إلى الحفاظ على البيئة وتوفير مصادر للطاقة النظيفة، ولذلك على سبيل المثال ترفض ألمانيا بشدة استخدام المفاعلات النووية لتوليد الطاقة، رغم أنها طريقة أرخص وأكثر فاعلية تتبناها كثير من الدول الأوروبية، لكنها قطعاً تضر بالبيئة، ومؤخراً وبعد العديد من الجدل السياسي أغلقت ألمانيا بالفعل آخر ثلاثة مولدات نووية لديها.
أما الأغذية والمنتجات "العضوية"، وهي المنتجات التي تخضع لمعايير صارمة أثناء إنتاجها، وتعتمد على طرق طبيعية وصحية آمنة تساعد في الحفاظ على بيئة نظيفة، هذه المنتجات تنتشر في طول البلاد وعرضها، وهناك محلات متخصصة بالكامل فقط في بيع هذه المنتجات، كما يمكن أيضاً أن يجدها المرء في كل المتاجر الأخرى، ورغم أن أسعار هذه المنتجات العضوية أغلى بكثير من المنتجات الأخرى المشابهة لها، لكن مع ذلك يقبل الكثيرون على شراء هذه المنتجات إيماناً منهم بأنها أكثر أماناً للصحة، واعتقاداً منهم بأنهم هكذا يُسهمون أيضاً في الحفاظ على البيئة.
أما موضوع التخلص من النفايات والفضلات في ألمانيا فهو موضوع معقد، ويحتاج مقالاً كاملاً لشرحه، لكن الذي أردتُ قوله هو أن موضوع البيئة والحفاظ عليها مسألة في غاية الأهمية في ألمانيا، ولأن التوعية بأي شيء تبدأ منذ الصغر، تولي الحكومة الاتحادية في ألمانيا، وكذلك الحكومات الفيدرالية عنايةً بالغةً لهذا الأمر، وتبدأ التوعية حوله منذ فترات مبكرة للغاية، تبدأ بشكل بسيط في روضات الأطفال وتتطور خلال المراحل الدراسية الأولى. فعلى سبيل المثال كانت هناك في مدرسة ابني الابتدائية، ومنذ الصف الأول، نشاطات مختلفة يقوم بها الطلاب تحت إشراف المدرسين، وكلها تهدف إلى التوعية بموضوع البيئة وكيف نحافظ عليها.
من هذه الأنشطة على سبيل المثال تخصيص يوم معين يقوم فيه الطلاب مع المدرسين بجولة حرة في الحي الذي تقع فيه المدرسة، وهم يرتدون القفازات ويحملون أكياس القمامة وأدوات النظافة، ويقوم الجميع بـ"تمشيط" الأحياء القريبة من المدرسة- النظيفة في العادة- من أجل البحث عن أي فضلات أو نفايات تركها البعض على الأرض، ويقومون بجمع هذه النفايات ورميها في الأماكن المخصصة. طبعاً نتيجة هذه الحملات التنظيفية تكون في العادة العثور على عدد بسيط من النفايات، لكن المهم هو أن الرسالة وصلت، وأن الأطفال أدركوا أهمية الحفاظ على البيئة، وأن هذه المهمة تقع على عاتق الجميع صغاراً وكباراً.
في المدرسة يتعلم الطلاب أيضاً- خصوصا في الأماكن التي يتناولون فيها الطعام- كيف يفرزون ويتخلصون من النفايات بحسب نوعها، وهي كما قلت عملية معقدة تحتاج إلى شرح مفصل، كما تقوم بعض المدارس باستضافة خبراء في هذا المجال، ويتم تخصيص وقت لهم للجلوس مع الطلاب، والحديث معهم عن مواضيع تتعلق بالبيئة وسلامتها، وأهمية الحفاظ عليها.
والأمر لا يتعلق فقط بمواضيع البيئة، بل بأشياء أخرى كثيرة، يتم توعية الطفل بها منذ سن مبكرة، بحيث يكبر وهو يدرك أهميتها ومسؤوليته تجاهها، ومن بينها أمور تحمي سلامته هو شخصياً. فاستخدام الدراجات الهوائية مثلاً شائع للغاية في ألمانيا- وهو يخدم البيئة بالمناسبة- وأغلب الطلاب منذ بدء المرحلة الابتدائية يستخدمون الدراجات الهوائية في الذهاب إلى المدرسة. لذلك تقوم المدارس بتخصيص أيام معينة يتم فيها استضافة أفراد من الشرطة وخبراء السلامة والأمان، ويقوم هؤلاء بتوعية الطلاب فيما يتعلق بموضوع استخدام الدراجات الهوائية، حيث يتم شرح قواعد المرور وقواعد السلامة بطريقة نظرية وعملية، (وقد يتم توزيع شهادات حضور ونجاح للمشاركين).
ولأن المَثَل العربي الجميل الذي يقول "التعليم في الصغر كالنقش على الحجر" صادق تماماً، فإن كثيراً من الأطفال هنا يكبرون وقد انغرست فيهم هذه المفاهيم والمبادئ بشكل عملي منذ الصغر، وتجدهم يمارسونها بشكل روتيني (مع وجود حالات شاذة طبعاً في كل زمان ومكان، لكن الشاذ يُحفظ ولا يُقاس عليه).
فلا أحد في العادة يرمي النفايات على الأرض، أو يتعدى على الممتلكات العامة، أو يقتلع الورود والأزهار المزروعة في كل مكان، أو يعبر الشارع بينما الإشارة حمراء، أو يقود الدراجة من دون خوذة واقية، وهكذا…
إن المجتمع الذي يرغب في أن يكون أفراده على قدر عالٍ من الشعور بالمسؤولية والواجب تجاه مجتمعهم عليه أن يبدأ بتوعيتهم بشكل مبكر، وأن يغرس مبادئ المسؤولية في هؤلاء الأفراد منذ الصغر، وهذه التوعية المبكرة تؤتي أُكُلها في وقت لاحق حين يكبر هؤلاء الصغار وتكبر معهم هذه المبادئ التي غُرست في عقولهم، وعلى الكبار أيضاً أن يكونوا قدوةً بدورهم، وأن يحرصوا هم أيضاً على مشاركة الصغار في هذه المسؤولية، وتنميتها بشكل جماعي، حتى لو كان الأمر صعباً على أولئك الذين لم يحظَوا بفرص التوعية هذه حين كانوا صغاراً.
لذلك حين بدر مني ذلك التصرف الذي لم يكن موفقاً، والذي أثار استنكار ابني الصغير، لِلحظة أردتُ أن "أكابر"، وأن أخبره بأن ثلاث أو أربع قطع زجاج صغيرة لن "تدمر" البيئة بالتأكيد، لكني تراجعتُ ووزنت الأمر بطريقة أخرى، مدركاً أن ما تعلّمه منذ مرحلة مبكرة يجعله يرى الأمور بهذا الشكل، ومن منظور أوسع كان عليّ الإقرار بأنه على حق، وأن من الأفضل دفن الكبرياء بدلاً من قِطع الزجاج، لذا قررت معالجة الأمر بطريقة أخرى، فأثنيت على موقفه، وأن الاستهانة بالأمور الصغيرة قد تفضي إلى عواقب وخيمة، واتفقنا على التخلص من تلك القطع الصغيرة بالطريقة الأفضل التي لا تؤذي البيئة، وهكذا جمعناها مجدداً في وعاء صغير، وقُدت السيارة حتى وصلنا إلى أحد الأماكن المخصصة للتخلص من نفايات الزجاج وتخلصنا منها هناك، ثم عدنا إلى البيت.
كان ابني يومها في غاية السعادة والفخر، كيف لا وقد تمكّن من إنقاذ البيئة! بينما كان الشعور بالحرج يغمرني في البداية، لكن هذا الشعور تلاشى بسرعة، وبدأت أنظر للأمر من منظور آخر، وأشعر بنوع من الرضا؛ لأن ما حصل كان في حقيقة الأمر درساً لكلينا، ولكن بطريقة مختلفة طبعاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.