مؤخّراً، عرفت الجوائز والمسابقات الأدبيّة انتشاراً واسعاً بوصفها أحد الانتصارات الّتي يحقّقها الكاتب خلال مسيرته الأدبيّة، والّتي تزيد من فرص وصول أعماله إلى عددٍ أكبر من القرّاء وتسوّق لاسمه بين أبناء جيله من الكتّاب والمؤلّفين، حيث تنوّعت أصناف هذه الجوائز بين الشّعر والرّواية والنّقد والقصّة، وساهمت في نوعٍ من التلاقح والانفتاح الثّقافي على مختلف الجنسيّات والحضارات، خصوصاً فيما يخصّ الجوائز الدّولية والّتي تستقطب المُشاركين من دولٍ مختلفة. يُجمع العديد من الكتّاب على أهميّة هذه الجوائز ودورها في تعزيز وتحقيق التّقدير للكاتب والكتابة بشكلٍ أعمّ، فيما يرى كثيرون أنّ هذه الجوائز ساهمت في تنميط وتقزيم دور الأدب من ناحية افتقادها للمصداقيّة، بحيثُ شكّكوا في نزاهتها ومسعاها.
يُرجح البعض أنّ الاهتمام الزّائد بالجوائز الأدبيّة راجعٌ بالأساس إلى المبالغ المالية الممنوحة وعنصر التّرجمة، إضافةً إلى أسلوب القوائم الطّويلة الّتي تَستعرض فيها أمانة الجائزة عشرات الأسماء، ممّا يشكّل دفعة إيجابيّة بالنّسبة للمشاركين، ويخلق بعضاً من التّشويق لدى المتابع. هذه العناصر جعلت الاهتمام بالجائزة يصبحُ أكبَر من التّركيز في الإنتاج الإبداعيّ نفسه، حيثُ أثارت سريرة الكثير ممّن لا يملكون الموهبة والأهليّة للكتابة، فكثُرت النّصوص والأعمال الرّديئة الّتي كُتبت لسببٍ وحيدٍ؛ التّهافت على التّقدّم للجوائز، وكان القارئ بمثابة الضّحيّة الأولى أمام هذا الاستسهال والنّقص في الإبداع، حيثُ أخذ العديد من القرّاء مواقف سلبيّة سبّبت لهم العزوف عند قراءة أوّل عملٍ صادفوه.
يرى الكثير من النّقاد أنّ الجوائز الأدبيّة ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في ما أسماه البعضُ استسهال الكتابة، من خلالِ الاحتفاء بالمشاريع والأعمال الّتي لا ترقى إلى مستوى التّتويج أو حتّى النّشر، ودعمها أنصاف المواهب ومنتحلي صفة الكاتبِ، بحيثُ تسهّل لهم ولوج عالم الكتابة والنّشر دونَ أن تَنظر إلى القيمة المعرفيّة والفنّية الّتي سيضيفها العمل إلى المُنجز والتّراكم الإنسانيّ الأدبيّ. بعض الجوائز الأدبيّة ساهم في تضخيم أوهام المتطفّلين على الكِتابة الإبداعية، خصوصاً في خضمّ تنامي النّاشرين الذين يُغرقون السّوق بالكتب الرّديئة والمَطبوعة على نفقة المؤلّف، حيثُ يكون الهدف في أغلب الوقت ماديّاً محضاً، وبحيثُ يصبح من المُستحيل انتقاء النّصوص الجيّدة وسط ركامٍ من الكتبِ الّتي تتّسم بالهزالة المعرفيّة والفقر في الخيال وغياب لمسةٍ إبداعيّة تساهم في تعزيز دور الأدب كقضيّةٍ ووسيلةٍ قادرةٍ على الخلق والتّغيير بدل استباحته والاستخفاف به.
من جهته، اعتبر الرّوائيّ المغربيّ طارق بكّاري موضوع الجوائز الأدبيّة لافتاً للاهتمام، ووصَفه بالخطر المحدّق بالرّواية العربيّة. وتابع بكّاري: "الجوائز مهمّة جداً، وتكتسي أهمّيتهَا من مسألتين، أوّلهمَا أنّها تساعد الكاتب مادّياً، خصوصاً عندما نأخذُ بعين الاعتبار الظّروف الّتي يمرّ بها سوق النّشر، وثانيهمَا أنّها تضمن للكاتب تسويقاً إعلامياً ناجحاً لروايته. فيما تعودُ خطورة هذه الجوائز في نظري لأمرين كذلك، أوّلهمَا، أنّ لهذه الجوائز ضوابط أخلاقيّة وقيميّة معلنة أو مضمرة تضعها الجهات المموّلة، وهذا يتنافى وروح الإبداع والأدب والذي لا يعترف بالرّقابة أو القيود، أمّا المسألة الثّانية، فتتعلّق بهذا الوهم اللّذيذ الذي تربّيه هذه الجوائز في نفوس بعض الأدباء، ما يجعلهم يكتبون على منوال الأعمال الفائزة، أو وفق ضوابط الرّقابة التي تفرضها هذه الجوائز، بل صارت الرّواية تستقطبُ أقلاماً من حقولٍ إبداعيّةٍ ومعرفيّةٍ مجاورةٍ للرّواية؛ أملاً في الحصول على هذه الجائزة أو تلك، وفي المحصّلة صرنا أمام تراكم كميٍّ خطيرٍ لا يقابله مع الأسف تطوّر نوعيٌّ".
وفي الحديث عن البرامج المتعلّقة بالجوائز، كتب الشّاعر الفلسطينيّ مهنّد ذويب في وقتٍ سابقٍ من عام 2022: "يستمرُّ برنامَج "أمير الشّعراء"، في مأسَسة الرّداءة داخِل المُمارسة الشّعريّة، من خلال تنميطِ الكتابةِ والإلقاء، وأيضاً تنميط التّلقي والقراءة. فهو لا يُقدِّم لنا فقط تصوُّره الأصوليّ عن الشّعر على أنّه الوحيد الذي يُسمّى شعراً، في ظِل تزايُد سطوة "مؤسّسات الوصاية على المقدّس والفضيلة"، بل يُنمّط المفردات والسّياقات والأصوات. كما أشارَ ذويب إلى أنّ الشّعرَ تَفَرُّد، وإذا لم تستطع أن تميِّز صوتَ الشّاعر حين تقرأ قصيدته أو نصّه، وتميِّز طريقة إلقائه، فما يقوله ليسَ سِوى تكرار سيتلاشى في الفراغ والتّشابُه. والشّعرُ، ككلّ الفنون، تَجاوُز، ويحقُّ لنا أن نسأل لماذا لا يُطالبُ الرّوائيون الأوروبيون، بوصفِ الرّواية جنساً أوروبياً برأي كونديرا وغيره، أن تُكتَبَ الرواية كما كتبها سرفانتس".
من جهته، امتنع الرّوائي المغربيّ محمّد سعيد احجيوج عن التّرشيح للدّورة الجديدة (2023) من "جائزة المغرب للكِتاب"، موضّحاً أنّ حصر مدّة التّرشيح في 20 يوماً، بالرّغم من كونِ شروط التّقديم معقّدةً، يهدفُ بالأساس إلى تقليص عدد المشاركات، إضافةً إلى أنّ إلغاء دورة العام الماضي من الجائزة دون أيّ توضيح، ونصّ شروط التّرشح للدّورة الحالية على قبول إصدارات العام 2022 فقط، حجبَ بذلك كل إصدارات العام 2021 ومنع كتّابها من حقّهم المشروع في التّرشح، كما أنّ تتويج الكتّاب في الدّورة الأخيرة، والذي جاء مناصفةً في أغلب أصناف الجائزة، يدلّ على غياب إرادةٍ حقيقيّةٍ في انتقاء ومكافأة الأفضل، خصوصاً أنّ أغلب من فازوا مناصفةً طالبوا بالحصول على قيمة الجائزة كاملةً، ممّا أفقدَ هذه الأخيرة مصداقيّتها المتبقيّة، وأظهر المستوى الذي وصل إليه المثقّف والمبدع. يتابع احجيوج بأنّه، وعلى الرّغم من كلّ الأسباب السّابقة، لن ينخرط في أيّ حملةٍ تدعو الكتّاب المغاربة إلى مقاطعة الجوائز، مبرزاً أنّ قيمتها المالية مهمّة جدّاً، ومن شأنها أن تحقّق بعضاً من الرّاحة المادّية التي من شأنها أن تحفّز الفائز بها على إنتاج ونشر أعمالٍ أدبيّةٍ في المستقبل القريب، كما أنّه سيتابع في مقاطعته بشكلٍ شخصيٍّ محضٍ للجائزة إلى غاية أن يشمل التّغيير السّياسات الثقافيّة للبلد، وأن ينخرطَ المسؤولون بشكلٍ جادٍّ في التخلّي عن الرّيع ومكافأة الكتّاب والفنّانين الأكثر تميّزاً واستحقاقاً للجوائز والدّعم.
خلال المؤتمر الصحفيّ الخاصّ بجائزة "فورمينتور"، دورة (2021)، وهي جائزةٌ أدبيّة دوليّةٌ تُمنح بهدفِ الاحتفاء بالأعمال الأدبيّة الإبداعيّة، في مدينة لشبونة عاصمة البرتغال، انتقد الكاتب والمُترجم الأرجنتينيّ سيزار آيرا "جائزةَ نوبل للأدب"، بالرّغم من كونه ضمن المُرشّحين، مؤكّداً أنّه لن يفوز بالجائزة؛ حيثُ إنّها من النّوع الذي يبحثُ دائماً عن مبرّراتٍ ومقاييس وصفها بالخارجة عن دائرة المنطق وغير الأدبيّة، ذلك أنّه لم يجد ضمن نصّ التّرشّح للجائزةِ أيّ شرطٍ يتعلّق بجودة الكتب والأعمال الّتي وُجد من أجلها هذا النّوع من المبادرات في الأصل. ويتابع آيرا بأنّه يثقُ في استقلاليّة الأدب وخلوّه من كلّ المعايير والقوالب الّتي يحاول أن يقرنَها أشباه المثقّفين بهذا الفنّ النّبيل، كما أنّه من المدافعين عن قضيّة "الفنّ من أجل الفنّ"، ويرى أنّ الأدب أكبر بكثيرٍ من التّوجّهات، والآراء، والأفكار، والكتابة أو حتّى الحريّة.. إلخ، حيثُ لا يؤمن بوجود تصنيفٍ للأدب، ويفضّل أن يروي حكاياته من البداية إلى النّهاية بشكلٍ واضحٍ، حرٍّ وبعيدٍ عن النّمطيّة أو أيّ شيءٍ من شأنه أن يحدّ من التّعبير والإبداع والتّجديد.
أخيراً، الكِتابة حقّ فرديّ وطبيعيّ يتمتّع به الجميع على اختلاف مشاربِهم وأعمارهم وخلفيّاتهم، كما أنّ الجوائز كانت وستظلّ تحفيزاً مهمّاً، لكن ليس من حقّها أبداً أن تقتل الإبداع، وتسهم في تمييعه بما يسبّب استسهالاً كبيراً، وبما ينمّي الكسل والخمول عندَ البعض، ويثقل القارئ بمئات الأعمال الرّديئة الّتي تؤدّي به إلى النّفور والابتعاد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.