حان وقت الرحيل، جمعت أغراضي المبعثرة فوق مكتبي، كوب قهوتي، أقلامي، وقصاصات ورقية، وأشياء أخرى عبثية طالما قررت التخلص منها، ولكني وللأسف احتفظت بها وها هي ترحل معي، لملمت كل شيء ولم يتبقَّ سوى صورة قديمة لشاب مبتسم عيناه تشعان أملاً، نابضتان بالحياة، إنه أنا وضعتها هنا قبل خمس وعشرين عاماً، كان ذاك يومي الأول في الشركة، واليوم هو يومي الأخير، أطلت النظر إليها، دققت في تفاصيلها وغرقت في بحر من الذكريات، كنت طفلاً سعيداً دون أن أملك أياً من مقومات السعادة، بيتي كان بسيطاً جداً، بالكاد تلامس نوافذه الضيقة أشعة الشمس، أبي موظف بأحد المصانع هزيل الجسد متعب، مع أنه لم يكن يعاني من أي مرض، لكنه كان عابساً حزيناً مقهوراً، أبي كان يعاني من النكد والغلاء والفقر، أبي كان يعاني من الخوف، كان مؤمناً بأن الحيطان لها آذان، كانت الحيطان ظله يمشي بجانبها ويقول يا ربي سترك. أبي كان يخاف من ارتكاب الأخطاء، كان يخاف من كلام الناس، كان يخاف منا وعلينا، أبي عاش خائفاً ومات نائماً بسكتة قلبية مفاجئة.
نحن ثلاثة إخوة، وأنا الولد الأوسط، والحقيقة أنني أكملت حياتي كلها واقفاً بالمنتصف، معلقاً بين السماء والأرض، لطالما شعرت بأن روحي مسجونة لم أتجرأ أن أطلق سراحها، مع أنها لم تكن يوماً ساكنة، بل كانت كما البركان الخامد، ينفث ناره تحت آلأرض فتعود إليه وتحرقه، إنني أشبه أبي بأن بركانه قتله، وأنا الآن أواجه ذات المصير.
والآن، وبعد أن بلغت من الكبر عتياً، أعترف أمام نفسي بأنني كنت إنساناً مملاً خاضعاً صامتاً جباناً، كنت جباناً عندما سرق أخي مني فرصتي بالالتحاق في التخصص الذي طالما حلمت به، أخي الذي كان فاشلاً بالتعليم، رسب بالتوجيهي مرتين، ومع الأسف تألق حظي العاثر ونجح في نفس السنة التي قدّمت فيها بالثانوية العامة، نجحت أنا بمعدل عالٍ، لكنه لم يكن يؤهلني لدراسة الطب، في البداية رفضت فكرة الاستسلام رغم علمي المسبق بوضع أبي المادي الصعب، لكنني قررت أن أصارحه برغبتي في إكمال دراستي بالخارج، ومع الأسف باءت محاولتي بالفشل، استشاط أبي غضباً وصرخ في وجهي قائلاً "من وين ألك مصاري تدرس طب، أبيع حالي، أحكيلك اقتلني وبيعني قطع غيار، بيع عيوني وقلبي، غير هيك ما في حل، أنا ما معي مصاري"، أسكتني أبي كان كلامه مؤلماً أطفأ وهج طموحي وقتل إرادتي. قبلت بالأمر الواقع ودخلت تخصصاً لم أقبل به أما أخي الكبير فقد قرر أن يسرق حلمي، أنا كنت أريد دراسة الطب البشري، أما هو فقد اكتفى بدراسة طب الأسنان مع أن "معدله" بالثانوية لم يتجاوز"60%" ولكن أخي ركب موج حلمه، وهاج وماج وتوعد وأخيراً هدد بالانتحار. خاف أبي أن يفعلها وانصاع لطلبه وباع الأرض التي كان قد ورثها حديثاً من جدي. أخي حقق حلمه وأصبح طبيب أسنان. تزوّج وأنجب، ثم عاد وفتح عيادته الخاصة، وأصبح أشهر طبيب تجميل أسنان بالبلد.
وأنا واقف على عتبة الستين تأملت شريط حياتي، اكتشفت أنني لم أتذوق طعم الحياة، قالوا إن أرض الله واسعة، فلماذا ضاقت عليه؟ لم أخرج من حدود مدينتي التي وُلدت فيها، لم أخض تجرِبة الحب، تزوجت من امرأة اختارتها لي أمي تجيد الطبخ والتنظيف،ولكنها تجيد "النقّ والتذمر" أكثر، امرأة غاضبة عبوسة. أما أولادي، ومع أسفي وحزني، فمتذمرون وناقمون عليّ وعلى كل شيء لم أستطع إرضاءهم مع كل ما بذلت من جهد. لقد أهدرت سنوات عمري في هذا المكان، سجنت نفسي بين حيطانه، كرهت الأبواب والنوافذ كل ذلك لأوفر لهم حياة كريمة.
ضعت في دهاليز الذكريات، سرحت وكأنني انتقلت إلى عالم آخر أعادني منه صوت أحدهم يقول: أبو نديم كل الموظفين بانتظارك، تأخرت عليهم، بخطوات متثاقلة اتجهت نحو قاعة الوداع، هناك ينتظرني زملائي ليكرموني على إخلاصي في عملي. كلهم يريدون أن يعبروا عن حبهم وحزنهم على فراقي، كلمات مكررة خالية من المشاعر قلتها أنا وغيري لكل من وقف مكاني في هذه القاعة، دخلت، نظرت في وجوه الحاضرين. شباب لا أعرفهم ولا يعرفونني ووجوه لا علاقة تربطني بهم سوى تحيات الصباح والمساء، ووجوه أعرفهم جيداً، أحفظ ملامحهم، إنهم عِشرة العمر والأيام.
نظراتهم كانت تقول لي أنتم السابقون ونحن قريباً اللاحقون، ضجت القاعة بالتصفيق، الجميع ينتظر أن ألقي كلمة الوداع، أخرجت الورقة من جيبي، يداي ترتجفان، شعرت أنني أختنق وكأن أحدهم أحكم قبضته على قلبي، والموت واقف أمامي يحدّق بي، كان مخيفاً لدرجة أنني لم أستطع الصمود أمامه خارت قواي ووقعت على الأرض كأنني شجرة اجتثت من جذورها، تباً هل سأموت الآن وبداخلي كل هذا الندم والقهر، هل سأموت هنا، أنا أمقت هذا المكان لذلك قررت ولأول مرة في حياتي أن اتخذ قراراً حراً أنا لن أموت هنا، وشوشت الموت وقلت له "اسمعني جيداً أنا لن أذهب معك انتظرني في مكان آخر، وإن شئت سأنتظرك أنا، قاومت الموت" ولكن الجميع ظن أني قد مت، تجمع كل الحاضرين فوق رأسي وهم يتهامسون: لقد صمت فجأة، كان واقفاً أمامنا بكامل صحته وعافيته وفجأة سقط، مسكين يا أبا نديم..! تأسفوا وترحّموا ثم ذهب كل منهم باتجاه.
نعم أنا لم أمت هناك، ولكني خسرت صحتي، قلبي متعب لم يعد يعمل بكامل طاقته، أنا الآن رجل تجاوز الستين بعام، مقهور حزين يأكل اليأس ما تبقى مني، نادم على ما فات، باكٍ على ما سيأتي، أندب حظي، بصراحة لا أعرف كيف أجد وصفاً يوفي حظي العاثر حقه، ولكني سأكتفي بهذا الوصف وأقول "إن حظي كدقيق قمح زرعته، وفي يوم عاصف حصدته، سرقوه وأكلوه ولم يبقَ لي شيء".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.