تكتسي النيجر أهمية بالغة من الناحية الجيوسياسية، إذ تعتبر قلب الساحل الإفريقي وحلقة الوصل بين الشمال والجنوب، دولة تقع وسط عدة دول أخرى، سِمتها الأساسية الهشاشة وعدم الاستقرار على جميع الأصعدة، مما يجعل من الانقلاب العسكري بها محل خطورة ومصدراً لمخاوف جادة تهدد المنطقة وديناميكية الصراع العالمي بشكل عام.
فقد واصلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، السبت 19 أغسطس/آب 2023، التهديد بالخيار العسكري ضد النيجر، بينما أعلنت كل من مالي وبوركينا فاسو أن أي تدخل مسلح في النيجر ستعتبرانه "إعلان حرب" عليهما أيضاً، وسيؤدي إلى انسحابهما من الجماعة الاقتصادية. ولا يقف الأمر عند ذلك، فقد أقدمت الدولتان على إرسال طائرات حربية إلى النيجر، وذلك ضمن جهود الدولتين في التصدي لأي هجوم عسكري محتمل على نيامي.
وقبل تحليل المخاطر المحتملة للتدخل العسكري أو نشوب تصدعات عنيفة داخلية، من الضروري النظر في الخارطة الاجتماعية والعرقية التي تشكل المكون الشعبي في النيجر، ومدى قوة الدولة العسكرية والأمنية والاقتصادية وتأثير الأطراف الدولية المتدخلة وتطور الجماعات والتنظيمات الإرهابية وتشابكها في عموم منطقة الساحل. فتحليل تلك العوامل ووضعها في سياقات الصراع الدولي، ربما يساعدنا في تحديد مدى خطورة المشهد وما يمكن أن تؤول إليه الأحداث.
النيجر دولة مسلمة تتشكل من مزيج عرقي متنوع مكون من 5 جماعات عرقية، ويمثل عرق الهوسا المجموعة الأكبر (53%)، إذ يشكل أكثر من نصف سكان البلاد وله انتشار واسع يمتد من تشاد إلى نيجيريا ومالي. بينما تعد قومية الطوارق (11%) أحد المكونات المهمة التي تشكل أحد أبرز أركان التفاعلات العرقية ليس فقط في النيجر بل في منطقة الساحل بشكل عام، فقد كان محل تركيز العديد من القوى، منها الفرنسية (المخابرات) التي لم تصل معه إلى بناء قاعدة ثقة منذ الوجود الاستعماري الفرنسي في المنطقة، بل كان أحد مهدداتها.
أما عن العرق الفولاني (8%)، فينتشر في جميع البلاد، ويتشكل من جماعات من البدو الرحل، ينتشرون في غرب إفريقيا عموماً. هناك أيضاً قومية الكانوري (6%)، التي تعيش في شرق زيندر، تنقسم إلى مجموعات فرعية؛ منها "المنجا" و"دوغرا" و"الموبر" و"بودوما". ثم يأتي المكون العربي (4%)، الذي لا يقل أهمية عن غيره وينحدر منه الرئيس المنقلب عليه محمد بازوم.
بالنظر إلى تلك التركيبة العرقية لمجتمع النيجر، نلاحظ أن هذه المكونات بمجموعها لا تربطها قاعدة المواطنة لغياب الديمقراطية، بمعنى أنها لا تشترك في ثقافة سياسية موحدة، لأسباب ناتجة عن الأوضاع المزرية التي أحدثتها القوى الاستعمارية هناك، إلا أن الروابط المشتركة ساهمت في التخفيف من حدة الطائفية، ولعل من أبرزها البعد الديني الصوفي المنسجم والمتماسك والذي يشكل الأمن الروحي لكل المكونات الشعبية والطائفية. ثم إن هناك خوفاً مشتركاً يضمر في خلد كل مواطن في النيجر، يرتبط بالقوى الاستعمارية والتي تراه سبب معاناته.
رغم ذلك، تتكاثر الحركات المسلحة في منطقة الساحل ويتنامي صراع نفوذها، ومع ارتفاع صوت البروباغاندا الروسية عن دعمها للشعوب الإفريقية للتحرر من المستعمر، ربما تنشأ حالة غير متوقعة من العنف والفوضى.
فوفقاً لصحيفة الشرق الأوسط، ازدادت الهجمات الإرهابية التي تضرب النيجر في الأسابيع الأخيرة، وأبرزها عمليتان؛ الأولى استهدفت قافلة عسكرية أوقعت 20 قتيلاً وعشرات الجرحى، والأخرى راح ضحيتها 28 مدنياً.
إضافة إلى ذلك، تعاني أنظمة وحكومات دول الساحل من الهشاشة، وتعد النيجر من أضعف وأفقر الدول في العالم، بالتالي قطع المساعدات وفرض حصار وعقوبات اقتصادية حتى بدون تدخل عسكري ربما يؤديان بالأحداث في النيجر إلى مزيد من الفوضى، إذ ستعجز أي حكومة قادمة أمام التحديات، من ثم ربما نشهد انقلاباً داخل الانقلاب أو حدوث فوضى وانقسامات ترقى إلى صراع داخلي على السلطة، وهي حالة تبعث بمخاوف، منها تنامي العمليات الإرهابية، وتتوسع وتزيد قدرتها؛ لتدفق السلاح وانشغال الأطراف بالصراع على السلطة، وتبرز موجة الهجرة الجماعية الضخمة نحو الشمال، مما يشكل تهديداً لدول الجوار وعلى رأسها الجزائر .
من جهة أخرى، في حالة تصاعد العنف ستكتسب المنطقة أهمية كبيرة للصراع العالمي، إذ يمكن أن تكون عبارة عن جبهة جديدة لصراع بين الغرب والشرق، فالصراع بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى يحتد بشكل أكبر كل يوم.
فبينما تسعى الصين لتنفيذ استراتيجيتها المتعلقة بتعزيز نفوذها في إفريقيا من خلال مشاريعها التنموية، فهي تزاحم القوى الدولية الأخرى عن طريق أسلحتها الناعمة، التي تجعلها محل ترحيب شعبي، في مقابل سخط شعبي إفريقي تجاه المستعمر الفرنسي، الذي يمثل الجانب الغربي في نظر الشعوب الإفريقية بشكل عام.
لذلك، يمكن القول إن التدخل العسكري ربما يسبب مزيداً من الفوضى والصراع لمصالح الجميع، فبينما ترفض الإدارة الأمريكية زيادة النفوذ الصيني، تخشى أيضاً من تدخل عسكري يزيد من حدة الميل الشعبي إلى معسكر الشرق، أي روسيا والصين. بينما الأخير يحاول زيادة نفوذه لاستمرار مشاريعة الاقتصادية العملاقة، أما عن روسيا فتحاول خنق أوروبا بالسيطرة على مصدر طاقة كبير آخر (اليورانيوم)، إضافة إلى فتح جبهة صراع في إفريقيا ربما يساعدها على الخروج من مستنقع أوكرانيا بأقل خسائر.
أما عن الجارة، الجزائر، فتدرك حجم المخاطر المحيطة بالنيجر وتستشعر التهديدات الناجمة عن الانقلاب المفضي إلى تدخل عسكري، لذلك طرحت منذ البداية مقاربة للحل السياسي على مبدأ عدم التدخل وعدم الانحياز، وهو تأسيس حذر جداً ظهر في رفضه للانقلاب وطرح حل العودة إلى المسار الدستوري، وهي أسس مبنية على فهم دقيق للصراع الدولي وارتباطه بالمكونات في النيجر. لذلك حاولت الابتعاد عن أي صراع مسلح يزيد من تعقيد الأوضاع وتفاقمها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.