أنجبت قريبتي 5 أطفال، وفي حملها السادس فقدت جنينها وهي حامل في شهرين، فامتنعت عن العلاقة مع زوجها، وعن الوضوء وعن الصلاة 38 يوماً حتى انقطع الدم، ولكنها فوجئت حين سمعت بعدها أنه "دم استحاضة وفساد"، وأنها فرطت بالصلاة، وينبغي عليها الآن قضاء ما فات، فأرسلت تستفسر، وهي تشرح وتقول وتؤكد أن: "الدم كان لونه وقوامه ورائحته دم نفاس، واستمر معها قرابة 40 يوماً، وكانت ترافقه كل الأعراض التي ألفتها وعرفتها في ولاداتها السابقة، فهذا الدم الذي ينزل من أين جاء؟ أليس سببه الإجهاض؟ فكيف يكون دم فساد؟ وكيف يمكن أن يقربها زوجها، وهي متأكدة أنه نفاس؟! أليس حراماً؟".
فالفتوى التي تُعتمد حالياً في دور الفتوى، والتي تقال وتُنشر على المواقع الموثوقة: "المرأة التي تُسقط جنينها قبل 80 يوماً، وترى الدم، فهو دم استحاضة وفساد، فتجب عليها الصلاة، وعليها ما على المستحاضة من الوضوء لكل صلاة بعد دخول الوقت، مع التحفظ بشد خرقة أو نحوها على الموضع، ويجوز لزوجها أن يجامعها".
وإن هذه الفتوى تحتاج لمراجعة من المجامع الفقهية، ولإعادة نظر لعدة أسباب:
الأول– لأن الأمر يتعلق بالصلاة، وهي أهم العبادات، فالأمر خطير وينبغي التدقيق والدخول في تفاصيل القضية. وإن الموضوع جد مهم، فقد جرت العادة أن يحتاط الناس لجانب واحد عند الشك، وهو الخوف من فوات الصلاة، ولا يحتاطون من الجانب الآخر وهو "الإثم، وعدم جواز الصلاة أصلاً حال الحيض"، ولو صلّت المرأة فلن تُقبل منها، وسترهق نفسها (وهي شبه مريضة) بلا أجر ولا ثواب ولا شكر. والأخطر والأشد حرمة هو اقتراب زوجها منها وهي متيقنة أنها حائض أو نفساء، فهل يجوز أن تمكنه من نفسها؟! كما أن السقط تتعلق به العدة، وعدم اعتباره سوف يطيل العدة على المرأة ويربكها؛ لأن الحمل بات يُعرف بيقين منذ الأيام الأولى، سواء بالتحليل أو بالإيكو، وبالتالي ستبدأ المطلقة عدة حمل، وهي متيقنة أنها حامل، وبحسب هذه الفتوى فإنها "إذا أسقطت خلال الأشهر الأولى فهذه كلها لا تُحسب لها، وعليها بدء عدة من جديد"، فتنتظر انتهاء الدم، ثم بعد ذلك عليها انتظار 3 حيضات، والحيض بعد النفاس يتأخر عادة لأسابيع طويلة، ولذلك قد يطول تربّصها بنفسها لسنة وأكثر.
كما أن الفقهاء لا يتقبلون أن تتحول العدة من حالة إلى حالة، فمثلاً: في حالة عدة الطلاق "إذا حاضت المرأة حيضة، ثم انقطع حيضها لأشهر، فعليها الانتظار حتى تأتيها الحيضتان الباقيتان، أو تعتبر نفسها حاملاً وتعتد 9 أشهر، ولم يفتوا بجواز تحول عدتها إلى الأشهر (ولو كانت كبيرة وقاربت على سن اليأس). وهنا ومع ثبوت الحمل باليقين والدليل القطعي، ومع ثبوت الإسقاط: فكيف نحول العدة من عدة حامل لعدة حائل؟!
الثاني– أن مجامعة الحائض والنفساء حرام بنص القرآن، فينبغي التيقن من طبيعة الدم النازل، حتى لا يقع الزوجان بالمحظور. ولقد علل الفقهاء عدم اعتباره نفاساً: "ذلك لأن الدم الناشئ عن إسقاط الجنين لا يكون نفاساً إلا إذا تبين فيه خلق إنسان، وما لم يتبين فيه خلق إنسان فليس بنفاس". وهذا الشرط اجتهادي، ولم يرد بالقرآن ولا السنة؛ ولذلك تنشأ مجموعة من التساؤلات المهمة: – "لماذا دم فساد؟ وأين ذهبت الدورة الشهرية؟! وعلام تنقطع فجأة بلا سبب، وينزل بدلها دم آخر؟!"؛ أليس الأقرب أن يكون حيضاً متأخراً؟! أقصد أن التفسير الأقرب للدم النازل أنه إما:
1- لا يوجد جنين فهو "تفسخ بطانة الرحم" أي الدم هو العادة الشهرية المألوفة، والحيض يمنع من الصلاة والجماع، فلا صلاة على هذه المرأة وعلاقة زوجية.
2- وإما نزل هذا الدم من الرحم بسبب انفصال المشيمة، فهو يماثل "دم ما بعد الولادة" وهو نفاس، وبالتالي يمنع أيضاً من الصلاة والجماع. ولا توجد حالة ثالثة عند المرأة الطبيعية، فالمرأة الطبيعية السليمة من الأمراض، لا ينزل الدم من رحمها إلا لعلة، وإلا لسبب وجيه وواضح، هو الحيض أو النفاس. وعادةً ما يصاحب الإجهاض تقلصات تشبه تلك المصاحبة للدورة الشهرية، وقد تتحول لتقلصات قوية تشبه المخاض. وبالمناسبة فإن نزول الدم -لغير الحيض والنفاس- يُعتبر مرضاً، ويحتاج لعلاج. ولذلك حُصر في القرآن الكريم وصف المرأة بين (1) حامل أو (2) حائل فقط، ولم يأت ذكر الاستحاضة إلا في الأحاديث الشريفة، وكانت لحالات قليلة جداً من الصحابيات، ولم تكن بسبب إجهاض، أو على أثر إسقاط، ولا بعد حمل متيقن، وإنما كانت علة دائمة لازمت بعض الصحابيات مدة حياتهن. وإن دم الاستحاضة لا يتوقف، ويبقى مستمراً ومتصلاً، ولذلك اختلط الأمر على الصحابيات، ولم يستطعن التفريق (بين الطهر والاستحاضة والحيض)، فسألن النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، وأما الدم النازل بعد السقط، فإنه كالنفاس الذي ينزل بعد الولادة التامة، حيث يلبث مدة وجيزة ريثما يستعيد الرحم وضعه، ثم يتوقف، ثم يعود كل شيء كما كان (وهذا ما يحدث لمن أسقطت، مما يؤكد أنه دم نفاس).
ولقد أثبتت الدكتور الفقيهة نورة المطلق في بحث لها نشرته بالعدد 88 من مجلة "البحوث الفقهية المعاصرة" أنه لا فرق في طبيعة الدم الذي ينزل (مع السقط) بعد الأربعين الأولى، أو الدم الذي ينزل بعد ذلك، أي بعد تخلق الجنين؛ فمصدره واحد وسببه واحد"، وباالفعل فإن أعراض السقط كأعراض الولادة تماماً، نفس التقلصات وذات الآلام القاتلة الموجعة، وبمجرد نزوله تنتهي أعراض الوحم، ويبدأ تدفق الدم. فهو دم نفاس ويمنع من الصلاة والجماع. وإن المرأة بعد الإجهاض تكون متعبة ومنهكة نفسياً وجسمياً، وكأنها مريضة، لذلك ينصح أطباء النساء والتوليد الأجانب بعدم ممارسة العلاقة الحميمة بعد الإجهاض لمدة أسبوعين على الأقل، لأن الجماع في هذا التوقيت قد يزيد من فرص الإصابة بالأمراض المنقولة جنسياً، نتيجة للنزيف التي تعاني منه النساء، بالإضافة إلى أن الرحم يكون متسعاً، مما يسمح للبكتيريا والفيروسات من الوصول إليه. وقد تحتاج بعض السيدات لفترة أطول من 14 يوماً بعد الإجهاض، قد تصل إلى 6 أسابيع، حتى يصبحن مستعدات لممارسة العلاقة الحميمة مرة أخرى.
وتوقف النزيف لا يعطي الضوء الأخضر لممارسة العلاقة الحميمة، بل يجب على المرأة أن تزور الطبيبة قبل الجماع، لفحص الرحم جيداً والتأكد من نظافته نهائياً، ورغم التعافي الجسدي، قد تواجه المرأة صعوبة في ممارسة العلاقة الحميمة بعد الإجهاض، بسبب الحزن على خسارة جنينها. وكل ما سبق يؤكد أنه أذى، أي نفاس، وأنه ينبغي ألا تقربوا النساء حتى يطهرن. الثالث- وإن الله -سبحانه- عمم بالقرآن عن وضع الحمل، ولم يرد في الكتاب الكريم، ولا السنة الشريفة، ولا الإجماع… اشتراط طور معين للجنين، أو لتخلق أعضائه، بل إن الله -تعالى- رتب عدة الحامل على وضـع حملها دون أي شروط: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وهذا يتوافق مع ما قاله الشافعية، فقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "لا يُشترط في النفاس أن يظهر بعض خلق الولد، بل لو وضعت علقة أو مضغة، وأخبر القوابل بأنها أصل آدمي، فالدم الخارج عقب ذلك نفاس"، وهو ما قاله الحسن: "إذا عُلم أنه حمل، انقضت به العدة".
وقال صاحب المغني: "إذا ألقت مضغة لم تبن فيها الخلقة، فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية، بأن بها أنها خلقة آدمي، فهذا في حكم الحال الأول، لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة أنه ولد". وبه قالت المالكية: لو ألقت دماً اجتمع لا يذوب بصب الماء الحار عليه، تنقضي به العدة، وما بعده نفاس. وأما اشتراط "خلق إنسان" فهو شرط اجتهادي وضعه جمهور الفقهاء، ولعل السبب الأساسي لوضعه هو الخوف من اللبس، باختلاط أحكام الدورة الشهرية بأحكام الحمل والسقط، ففي زمانهم لم يكن هناك أجهزة وأدوات يتيقنون منها؛ فقال ابن قدامة معللاً: "عدتها لا تنقضي به، لأنه مشكوك في كونه ولداً، فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة بأمر مشكوك فيه"؛ واليوم لم تعد هذه الشكوك موجودة، فالدقة بالتحاليل والفحوصات عالية جداً، وتكاد الأخطاء أن تكون معدومة تماماً.
خاصة مع الأعراض الشاقة والمتعبة التي تصاحب الحمل، والتي تعرفها كل امرأة (قبل أن تلجأ للطب). وبكل حال، فإن الأشعة التي تُجرى للحوامل، أثبتت أن الحمل يكون جنيناً، من الأسبوع الرابع من بداية التلقيح. وإن الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد، كانوا يعتقدون أن العلقة دم جامد وليس فيه تصوير، ولا يتشكل الإنسان إلا في الطور الثالث؛ ولكن ومع تقدم العلوم وتطور الأجهزة الطبية ثبت وتبين أن خلق الإنسان وظهور أعضائه يكون في الأربعين الثانية (أي قبل الثمانين يوما التي حددها الفقهاء بمدة كبيرة)؛ ولقد اكتشف الطب أنه يبدأ تكوُّن معظم الأعضاء بعد حوالى 3 أسابيع من الإخصاب، وهو ما يعادل 5 أسابيع من الحمل (لأن الأطباء يُؤرِّخون بداية الحمل اعتباراً من اليوم الأول لآخر دورة شهرية للمرأة، وهو أسبوعان قبل التخصيب عادةً). ويزداد طول المضغة خلال هذه الفترة، وهي أوَّل ما يُشيرُ إلى الشكل البشري. وبعد ذلك بوقت قصير، تبدأ المنطقة التي ستصبح الدماغ والحبل النخاعي بالتطوُّر. ويبدأ القلب والأوعية الدَّموية الرئيسيَّة بالتطوُّر في وقت مُبكِّر أي بحلول اليوم السادس عشر تقريباً.
ويبدأ القلب بضخ السوائل عبر الأوعية الدَّمويَّة في اليوم العشرين، وتظهر أول خلايا الدَّم الحمراء في اليوم التالي. وتستمر الأوعية الدَّمويَّة بالتَّطوُّر في المضغة والمشيمة. وتُسمع نبضات قلب الجنين بين الأسبوع الـ5-6 من الحمل، وفي الأسبوع السابع من الحمل أو الأسبوع الخامس من الإخصاب، يبدأ رأس الجنين ووجهه في النمو. فيكون له خلق إنسان، ويكتمل تشكيل جميع الأعضاء تقريباً بعد حوالى 10 أسابيع من التخصيب (وهو ما يعادل 12 أسبوعاً من الحمل). الرابع- عدم اعتباره "خلق إنسان" يتعارض، بل يتناقض مع ما يفتون به من "حرمة إسقاط الجنين بعد الأربعين الأولى"، حيث يعتبرونها قتل نفس، ومن الفقهاء من رأى: أنه إذا تسببت المرأة بإسقاطه بعد تمام أربعين يوماً فيلزم فيه دية "غرة"، لأنه لا يجوز التعدي على حياته، فإذن هو خلق إنسان من الأربعين الأولى، بل من قبلها لأن المالكية منعوا إسقاطه مطلقاً (من لحظة التلقيح الأولى).. فهذا اعتراف بأنه إنسان، وبالتالي الدم نفاس. والخلاصة، والأقرب للصواب: ما تراه المرأة بعد الطرح هو دم نفاس، ولو كان عمر الحمل أياماً معدودة، وبناء عليه تمتنع الزوجة عن الصلاة والجماع وغيره، بل يحرم عليها الاقتراب من كل ذلك، وبه تنتهي عدتها، والله أعلم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.