نيمار.. الموهبة البرازيلية التي أعماها الطمع منذ الصغر عن كرة القدم

عربي بوست
تم النشر: 2023/08/16 الساعة 09:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/08/16 الساعة 09:10 بتوقيت غرينتش
نيمار دا سيلفا (رويترز)

في عام 2006، كانت ألمانيا تستضيف مسابقة كأس العالم، وكانت البرازيل إحدى الدول المُرشحة لتحقيق اللقب، لكنها في ربع النهائي واجهت زيدان ومن تشبثوا بثوبه؛ منتخب فرنسا.

في تلك المباراة، كان العالم في حيرة من أمره: يُشجع البرازيل للصعود لضمان كرة جميلة في نصف النهائي؟ أم يُشجع زين الدين زيدان في آخر بطولة كأس عالم بالنسبة له؟

لكن تييري هنري كان لديه الرد الأنسب لهذه التساؤلات الخيالية؛ فبينما كان نيلسون ديدا، حارس منتخب البرازيل ما زال يفكر، وجد هنري في مواجهة خالصة أمامه، فوضع هنري قدمه، ولم يفهم ديدا حتى اليوم متى تسلل هنري إلى هذه المساحة بمفرده، ومتى سدد الكرة في الشباك مُقصياً منتخب البرازيل من المونديال.

في البرازيل، كُل خسارة لقب تعني بالضرورة فُقدان أمل لشعب مُعدم، وفي هذا الصدد تقول الكاتبة البرازيلية البسيطة، التي كانت تُدعى "كارولينا ماريا دي خيسوس" إن الشعب البرازيلي لديه حالة وفاة يومية في كل مناحي الحياة.

كارولينا ماريا دي خيسوس، لم تكن تكتب للتربّح؛ بل كتبت لكي تُوثق هذه الأحداث الدرامية في حياة كل مواطن برازيلي عاشت معه، وقابلته في الطريق، أو جلست بجواره في الحافلة، وتعرف عليها أحد الصحفيين قدراً وقرر أن يعرض كل مذكراتها في كتب وأصبحت فيما بعد الكتب الأكثر مبيعاً في البرازيل في فترتها.

عن المعاناة الكبيرة التي عاشتها كارولينا مارينا دي خيسوس؛ قالت إن الشعب البرازيلي يعيش حالة وفاة يومياً لكل شيء من مناحي الحياة، لكن هذه الأشياء ليست أموراً مادية ولا حتى أشخاص يُمكن أن يُسجلوا في سجل الوفيات.

كانت الأشياء التي تفقدها البرازيل، كل يوم، وما زالت؛ هي العيش بكرامة، المال، الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، وكل شيء يموت بالتدريج حتى أصبح الناس موتى على قيد الحياة!

لكن ربما نتساءل: ما علاقة ماريا دي خيسوس بهزيمة البرازيل في كأس العالم عام 2006؟ ببساطة، لأن ما قالته ماريا كان رداً صريحاً قبل سنوات من أن يُطلق تيري هنري تصريحه بعد مباراة البرازيل، والذي قال فيه إنه يحب الكرة البرازيلية، لكنه يعتقد أن الوضع في أوروبا يختلف كثيراً عن نظيره في الأمريكتين: الشمالية والجنوبية.

في فرنسا، أو في أوروبا بشكل عام، لا يمكنك إلا أن تلتزم بجدول مواعيد مُحدد، ويمكنك أيضاً أن تفعل كل شيء بنظام، ولا يصح لك أن تلعب الكرة إلا بعد أن تفرغ من واجباتك وكل ما يأمرك به أهلك؛ لكن في البرازيل…في البرازيل لا أحد يهتم بالأطفال.

في البرازيل، يستيقظون في الثامنة صباحاً للعب كرة القدم، ويُغادرون الملعب للنوم، على أن يعودوا في الغد ويُكرروا هذا الروتين المُمل، ومن هنا أدرك الشعب البرازيلي أن الكرة بمرور الزمن لم تعد رفاهية، بل هي السبيل الوحيد للنجاة من هذه الأوضاع المعيشية الصعبة.

كان رد ماريا دي خيسوس على هنري رداً مُسبقاً، قبل سنوات من ولادة هنري نفسه، وهي المرأة التي تُوفيت بشكل رسمي قبل ولادة تيري هنري بستة أشهر كاملة.

لكن الرد المنطقي على هنري، جاء من البرازيلي الذي عاش في فرنسا، والذي أصبح يتقلد منصباً كبيراً في نادي ليون الفرنسي كونه أسطورته؛ إنه جونينهو المعروف بفتى الركلات الحرة الذي لم يعرف الناس عن مسيرته إلا مهارته في هذا الشِق.

كان رد جونينهو أن الشعب البرازيلي لا يفعل ذلك إلا برغبة البقاء في حيز لا يراه أحد؛ في البرازيل الأمر أكبر من حصره في مشكلة الأموال، ففي أوروبا يتمتع الإنسان بجانب يجعله إنساناً، لكنهم في البرازيل يلعبون لكي يُصبح كل واحد منهم إنساناً؛ فكر في الأمر جيداً!

حقائق لا بد من أن تعرفها…

في الخلفية، يظهر دائماً نيمار سانتوس سينيور؛ وهو والد نيمار دا سيلفا جونيور، وهذا الرجل بالتحديد رأى أن ابنه هو الحلم الذي ضاع عنه في شبابه!

نيمار سانتوس سينيور، كان لاعباً لكرة القدم، لكن أحداً لم يهتم به يوماً، إلى اليوم الذي تعرض فيه لحادث سير أرغمه على الاعتزال، وقرر الرجل أن يتفرغ للعمل في الحياة العامة، حاله حال أي مواطن برازيلي آخر.

كان راتبه لا يكفي بالكاد إلا لتوفير وجبة واحدة على مدار اليوم، لزوجته وأبنائه، وكانت الأسرة تُعاني من فقير شديد وُمدقع لدرجة أنهم كانوا ينامون جميعاً على مرتبة واحدة، وأحياناً بلا كهرباء.

قال نيمار سانتوس سينيور إن الأوضاع لم تكن مناسبة للتأقلم عليها؛ كان يشعر بالحرج كلما مر ابنه أمام متجر أو محل وقال له "أبي.. أريد هذا" في نفسه، كان دائماً ما يُردد كلمة لا، وقال إن نيمار وشقيقته تعلما أن كلمة لا كانت مناسبة لفهم الظروف القاسية التي عاشتها الأسرة.

نيمار سانتوس جونيور بنفسه، قال في إحدى مقابلاته في الفترة الأخيرة، إنه كان يشعر بهذا الفقر الشديد في أنحاء الأسرة، ويتذكر أنه طلب من والدته أن تشتري له "الكوكيز" التي كان يُحبها، لكنها أخبرته بأن والده لم يتسلم الراتب بعد، وعليه أن يصبر إذا أراد أن يأكل بالحلال كما نقول.

في ذلك الوقت، أخبرها نيمار أنه في يوم من الأيام سيُصبح غنياً؛ وسيشتري مصنعاً كاملاً لتصنيع الكوكيز يكون تحت إمرته؛ وهو ما جعلها تبكي تحسراً على حالهم وأيضاً على حديث ابنها الذي لا يُشبه واقعهم.

نيمار
نيمار في نادي سانتوس / مواقع التواصل الاجتماعي

كل شيء تحت إمرته…

كبر الطفل الفقير، وأصبح يلعب في صفوف نفس الفريق، الذي لعب فيه الأساطير الذين أحبهم وشاهدهم على شاشة التلفاز: رونالدينهو، روماريو، وحتى الظاهرة رونالدو.

حينما كان لاعباً في صفوف نادي برشلونة الإسباني، حوّل نيمار النادي إلى منتجع سياحي لخدمته وخدمة ذويه؛ أصدقاء نيمار، هم فقط من يُمكن أن يُطلق عليهم مصطلح "Friends with benefits"؛ أي أصدقاء المنفعة.

في عام 2013، حينما أعلن برشلونة عن تعاقده مع نيمار دا سيلفا قادماً من صفوف سانتوس البرازيلي، أحضر أسرة نيمار وأصدقاءه، لكن في رحلة خاصة تُقدر بحوالي 350 ألف دولار، كل ذلك من أجل أن يحضر رفاقه حفل تقديمه، على أرضية ملعب الكامب نو.

ثلاثة منهم، يُقيمون معه بشكل دائم في كل مكان يذهب إليه، والبقية في كل مكان يذهب إليه نيمار؛ يُصبح لزاماً على هذا المكان إحضارهم في طائرة خاصة، ذهاباً وإياباً، والتكفل بكل مصاريف إقامتهم، كان عددهم في البداية 10 أفراد، ثم تزايدوا إلى أن وصلوا إلى 50 فرداً.

الثلاثة المقيمون معه بشكل دائم، يدفع لهم نيمار راتباً ثابتاً في كل شهر، قُدر بحوالي 11 ألف دولار شهريًا، وازداد حسب التقارير الأخيرة وأصبح حوالي 20 ألف، وسيزداد في القريب العاجل، وحتى بعد أن يعتزل كرة القدم بشكل نهائي.

أحدهم كان مصوراً فوتوغرافياً، والثاني كان مديراً لإحدى الشركات البرازيلية، لكنهم تخلوا فوراً عن هذا النمط من الحياة؛ لمجرد أن يعيشوا حياة لا شغلة فيها ولا مشغلة، يكون دخل الواحد منهم فيها سنوياً يصل لما يقارب ربع مليون دولار.

في البرازيل، يستهجن الشعب هذا الحال، رغم أنه لا يعنيه ما يفعله النجم البرازيلي، ولا حتى يحق لأحد أن يُحاكم غيره على مصادر دخله ولا أين يُنفقها سوى الجهات المعنية بذلك.

لكنهم في البرازيل، يستشعرون أن الفقر هو عدو الفقير إذا اغتنى؛ لأن الفقير إذا أتاه المال فجأة، أذهبه فجأة، وعاد كما كان فقيراً، بل ومذلولاً أيضاً.

في البرازيل، يحسدون نيمار على هذه الحياة؛ كل فقير هناك يحلم بأن يكون مكانه، أو مكان أحد أولئك المُتسكعين الذين كان رزقهم في الحياة أنهم أصدقاء نيمار ليس إلا!

نيمار أحب المال أكثر من كرة القدم

ربما أخطأ تيري هينري فيما قاله؛ لكنه لم يُخطئ في اعتقاده في حق البرازيليين، خاصة بعد 10 سنوات من حديثه، والذي تأكد بصورة رسمية حينما كان أحد نجوم البرازيل على مقربة من دولة فرنسا نفسها.

جونينهو، اللاعب البرازيلي الذي ابتعد عن أفكار وأسلوب لاعبي البرازيل، قال إن نيمار دا سيلفا جونيور، ونيمار سانتوس سينيور، تسببا في هذه الصورة النمطية التي تناولها الناس عن الشعب البرازيلي.

كان نيمار طماعاً، حينما فضّل أن ينتقل إلى صفوف باريس سان جيرمان للحصول على راتب أكبر، تاركاً خلفه إرثاً وتاريخاً أفضل في برشلونة، مع الفريق الذي نال معه لقب بطولة دوري أبطال أوروبا للمرة الوحيدة في مسيرته، والمرة الوحيدة التي كان يتساوى فيها مع ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو بشكل رسمي في صدارة هدافي بطولة دوري أبطال أوروبا.

This image has an empty alt attribute; its file name is neymar-father-1024x667-1.jpg

نيمار كان طماعاً؛ لأنه اتّبع والده الذي طلب منه أن يبتكر حيلة للضحك على عقول مشجعي برشلونة في كل مكان في العالم، عن طريق فيديو مُصور يستعرض فيه لحظاته مع الفريق وفي الخلفية موسيقى حزينة لكي لا يُركز أحد مع حقيقة أن نيمار ذهب إلى هناك عن طريق كسر عقده، وعن طريق الحصول على راتب أكبر؛ ليس من أجل الذهاب نحو مشروع أفضل كما زعم.

كل هذا، ما قاله جونينهو في حق نيمار، ولم تكن هناك مساحة لتبرئة النفس بعد فِعلة نيمار في عام 2017 في حق نفسه قبل حق برشلونة، وفي حق كرة القدم البرازيلية كلها.

توستاو، أحد الفائزين بلقب بطولة كأس العالم رفقة المنتخب البرازيلي، كان قد قال في زمن مضى، إن البرازيل ظلمت هذا الشعب الفقير المُعدم؛ ظلمته لأنه لم تمنحه حياة طيبة، ولا مدارس يتعلم بها، ولا لُقمة عيش جيدة، بل منحته مساحات واسعة من الأراضي التي استثمرها الشعب في التربح منها وتطوير مواهبه لبيعها لأوروبا ومختلف بلدان العالم.

وهذه هي حقيقة نيمار ووالده؛ موهبة أضاعها الطمع، وسارت خلف المادة حتى خسرت نفسها، نيمار كان من الممكن أن يكون من بين أفضل لاعبي كرة القدم على مدار تاريخها، موهبته كانت لتضعه في هذه المرتبة دون منازع.

   نيمار
نيمار

لكنه لم يكسب من هذه المسيرة، التي دامت لأكثر من عشر سنوات في قارة أوروبا؛ إلا أنه خرج من البرازيل كما عاد إليها باستثناء الأموال، لم يفز بلقب كأس العالم، ولن يفوز بالكرة الذهبية أبداً، وخسر لقب كوبا أمريكا على أرض البرازيل ولصالح اللاعب الوحيد في قارة أمريكا الجنوبية الذي فعل كل شيء لأجل أن يكون اسمه لامعاً في تاريخ الكرة؛ ليونيل ميسي.

خسر نيمار فرصة أن يفوز بلقب دوري أبطال أوروبا، رفقة برشلونة من جديد، وخسرها أكثر حينما قرر أن يُحول مسيرته إلى مساحة من الفوضى يحكمها الترف.

نيمار يغادر أوروبا كما غادر برشلونة

أحد أفلام السينما عن مُحاكاة كرة القدم، كان فيلماً اسمه "GOAL" وكان يستعرض قصة خيالية، للاعب مكسيكي كان والده يعمل في الفِلاحة في المكسيك، ولطالما حاربه لمنعه من تضييع وقته بالتركيز مع كرة القدم.

لكن الفيلم انتهى إلى وصول سانتياجو مونييز "البطل" إلى اللعب في صفوف نيوكاسل يونايتد الإنجليزي وريال مدريد الإسباني، لكن في الفيلم لقطة أبدع المخرج في استعراضها.

"السيد دورنهيلم "المدرب" صرخ في وجه سانتياجو مونييز حينها: مرر الكرة، مرّر يا رجل! إلى متى؟! حينها لم يُمرر سانتياجو أبداً، طلب من الجميع المُغادرة، أخبر سانتياجو أن يركض نحو المرمى، ثُم ركل الكرة، عاد سانتياجو فاقداً للأمل، وأعاد دورنهيلم الكَرة، حتى تسمّر سانتياجو في مكانه، حينها ابتسم دورنهيلم وأخبره: هنا، نحن نمارس كرة القدم بشكل جماعي، قد تكون لديك الموهبة، لكنها لا تعني لنا شيئاً إن كانت ناتجةً من البحث عن المجد الشخصي، زميلك كان في مركز أفضل، الكرة تستطيع أن تتخطاك في سباق السُرعة، أنظر! لدينا، الشعار على واجهة القميص (شعار الفريق)، أهم بكثير، من الشعار في نهاية نفس القميص (اسم اللاعب).

غادر نيمار قارة أوروبا كما غادر برشلونة.. من أجل المال، فلم ينجح بإرادته، أن يكون خليفة لميسي ولا حتى أن يكون ظله، حيث انصب تركيزه على كيف يسعّر اسمه في نهاية القميص، غير آبه بالشعار الأهم على واجهة القميص!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عمر إبراهيم
كاتب في المجال الرياضي وكرة القدم
كاتب في المجال الرياضي وكرة القدم
تحميل المزيد