تعدّ الهجرة ظاهرة عالمية عرفتها الإنسانية منذ قديم الأزل، لا سيما في الدول النامية.
قد يراها البعض تهديداً للنسيج الاجتماعي للدول واستنزافاً لرأسمالها البشري، غير أنها قد تنطوي في بعض الأحيان على آثار إيجابية على المستويين الاقتصادي والثقافي في حال استثمرت الحكومات هذه الظاهرة. يمكن القول إن البعد الاقتصادي يطغى على نظرة الدول النامية لأبنائها في الخارج، ونجحت بالفعل بعض الدول، مثل الهند، في تخفيف حدة نقص العملة الأجنبية وجذب تدفقات مالية كبيرة عبر إصدار سندات للمغتربين.
بعيداً عن هذا الجانب الاقتصادي، تفتقر غالبية الدول إلى بوصلة واضحة في الاستفادة من مواطنيها المغتربين في تعزيز قواها الناعمة وحضورها الثقافي على الصعيد الدولي، لكن بعض الدول استطاعت تحويل الهجرة إلى مصدر جديد للقوة الناعمة. أناقش هنا النموذج اللبناني في التعامل مع المغتربين بوصفهم رافداً اقتصادياً وثقافياً مهماً للدولة.
شهد لبنان العديد من موجات الهجرة التي بدأت أواخر القرن التاسع عشر، ثم ارتفعت ارتفاعاً حاداً خلال الحرب الأهلية (1975-1990). وأظهرت الكثير من الدراسات زيادة كبيرة في أعداد المهاجرين اللبنانيين بعد انفجار مرفأ بيروت عام 2020، وتفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2021. على مر التاريخ، شكّل المغتربون شرياناً أساسياً للاقتصاد اللبناني، حيث بلغت تحويلات اللبنانيين في الخارج 38% من إجمالي الناتج المحلي هذا العام. وخير دليل على ذلك مؤتمر "الاقتصاد الاغترابي الثالث" الذي انعقد في بيروت تحت رعاية رئيس الوزراء اللبناني في مايو الماضي، والذي استقطب أكثر من 300 مشارك من 30 دولة حول العالم. ناقش المؤتمر دور المغتربين في التغلب على الأزمة الاقتصادي التي تمر بها البلاد، واستعرض رؤية المغتربين للخروج من هذه الأزمة. وهنا أزعم أن الاستفادة الاقتصادية من المغتربين مرهونة بإقناعهم بأنهم شركاء في الوطن.
المتأمل في تاريخ لبنان الحديث يرى أن الحكومات المتعاقبة، لا سيما في حقبة الخمسينيات وحتى انتهاء الحرب الأهلية، حاولت استثمار ظاهرة الهجرة بشتى السبل، ومد جسور التواصل مع اللبنانيين خارج الوطن. على سبيل المثال، اعتادت السيدة فيروز، قيثارة الغناء العربي، السفر إلى مختلف الدول والغناء للبنانيين هناك من أجل تذكيرهم بهويتهم وتراثهم. كان هذا هو الهدف المعلن لزيارتها إلى الولايات المتحدة عام 1972، حيث تجولت في 11 ولاية أمريكية وهي تحمل العلم اللبناني. بعبارة أدق، كان الهدف من هذه الحفلات تعزيز الصلات الوجدانية بين المهاجرين اللبنانيين ووطنهم. وينسحب الأمر نفسه على حفل فيروز عام 1986 في لندن، الذي استهدف، حسب السفير اللبناني لدى بريطانيا، توطيد العلاقة بين المغتربين اللبنانيين ووطنهم.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، حاولت الجاليات اللبنانية في الخارج الاضطلاع بدور فاعل في تغيير الصورة النمطية التي تشكلت عن لبنان أثناء الحرب. على سبيل المثال، شارك العالم الأمريكي اللبناني إدوارد عازر، مؤسس مركز التنمية الدولي وإدارة الصراعات في جامعة ميرلاند الأمريكية، في تأسيس كرسي جبران للقيم والسلام بالتعاون مع أساتذة لبنانيين آخرين مثل سهيل بشروئي عام 1985.
سعى هذا الكرسي التابع لجامعة ميرلاند إلى الاستفادة من إرث الشاعر اللبناني جبران خليل جبران وشهرته العالمية في الترويج للبنان بوصفه أرضاً للسلام وجسراً يربط الشرق بالغرب. وبادر رجل الأعمال اللبناني جورج الزاخم بتقديم منحة قدرها مليون دولار أمريكي لتمويل أنشطة الكرسي. وخلال حفل تدشين الكرسي، ذكر السياسي والدبلوماسي اللبناني غسان تويني أن كرسي جبران سيغدو صوتاً للبنان واللبنانيين في المحافل الدولية، وسيسهم في تحدي الصورة النمطية للبنان في الإعلام الغربي. يجب هنا أيضاً الإشارة إلى دور الدولة اللبنانية في التواصل مع أبناء الجالية اللبنانية وتشجيعهم على المشاركة في بناء الوطن. فقد أعلن الرئيس اللبناني أمين الجميل عام 1983 تدشين فعاليات دولية ترمي إلى تخليد ذكرى جبران، وشكّل لجنة رئاسية تألفت من وزراء السياحة والتعليم والبروفيسور سهيل بشروئي وغيرهم. وبدورهم شارك المغتربون اللبنانيون في إقامة هذه الفعاليات التي انعقد معظمها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ نظراً للظروف العصيبة التي كانت تمر بها لبنان جراء الحرب الأهلية.
وفي سياق تعزيز الحضور الثقافي للبنان على المستوى العالمي، أسست الحكومة اللبنانية الاتحاد الثقافي اللبناني العالمي الذي بات يعرف باسم "الجامعة الثقافية اللبنانية في العالم" عام 1959، كجهة تمثل المهاجرين اللبنانيين وتسعى إلى نشر التراث اللبناني عبر فروعها في جميع أنحاء العالم. أسهم الاتحاد في نشر أدب جبران خليل جبران من خلال تشييد مكتبة عامة تحمل اسمه في العاصمة الفنزويلية كاراكاس من أجل عرض تراثه الأدبي، إلى جانب بناء تمثال له وبجواره علم لبنان. وخلال حفل افتتاح المكتبة عام 2013، حثّ ميشال الدويهي، رئيس الجامعة الثقافية اللبنانية في فنزويلا، اللبنانيين المغتربين، على الاعتزاز بتاريخهم الفينيقي، نسبة إلى البحارة الفينيقيين الذين استوطنوا أرض كنعان وعاشوا على الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. وهنا أشير إلى أن القومية الفينيقية تعدّ شكلاً من أشكال القومية اللبنانية الأكثر حضوراً في أوساط النخبة السياسية اللبنانية.
كذلك شاركت الجامعة الثقافية في الاحتفالات الوطنية بذكرى ميلاد جبران عام 2007 عبر تنظيم احتفالية في باريس شارك فيها المغتربون اللبنانيون من أجل الاحتفاء بجبران بوصفه رمزاً للبنان، وأقاموا تماثيل له في العديد من الدول، مثل الولايات المتحدة وأستراليا والبرازيل وغيرها. كما نظمت الجامعة فعالية "أيام لبنان في باريس 2017" من أجل تسليط الضوء على الجوانب الثقافية للصداقة اللبنانية-الفرنسية. يستوقفني هنا دور الجالية اللبنانية في تنظيم وتمويل هذه الفعاليات التي تسهم بدور كبير في نشر التراث اللبناني في ربوع العالم وتعميق الصلات بين المغتربين ووطنهم الأم.
وفي ضوء ما سبق ذكره، يمكن القول إن الحكومات لا يمكنها أن تراهن على انخراط المغتربين في النشاط الاقتصادي والثقافي لبلدهم الأم ما لم تبادر إلى إنشاء مؤسسات واتحادات تتولى التواصل مع المغتربين والاستفادة من خبراتهم في بناء الوطن. والأمر الآخر الأكثر أهمية يتعلق بدور الحكومات في التوصل إلى سبل مبتكرة للاحتفاء بالرموز الوطنية التي تعزز الانتماء للوطن. ولا تقتصر هذه الرموز على العلم الوطني والنشيد الوطني، بل تشمل كذلك أبرز الشخصيات التي تحولت إلى رموز للعطاء والإثراء الثقافي والاجتماعي. ومن أبرز الرموز الوطنية التي ألهمت الجاليات اللبنانية حول العالم منذ القرن الماضي السيدة فيروز وجبران خليل جبران.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.