تحل الذكرى العاشرة لمذبحة ميدان رابعة العدوية، هناك كان الارتقاء حل السقوط، وحيثما حلَّت الإبادة حلت الشهادة، وحيثما انفضح الانبطاح تعالت الهمم محلقة ومتسلحة بالأمل.
هي قوانين الكرامة التي تسطَّر بدماء أصحابها وبصيحات أصوات الشرف والعزة وبثبات الحق على الحق، وهي امتحان الكلمة الصادقة والموقف الشجاع، وحب الخير للإنسان وللوطن.
حين تحل نوازل المِحَن، وتدلهم الخطوب، ويتواطأ كل متثاقل إلى الأرض على
الراغبين في بلوغ العلا حياة ومماتاً، وحين تنطق الجثث بلغتها وتدوم كلماتها وقد دبَّت فيها الحياة، وحين يكشر الجبان عن أنيابه ويسخر زبانيته وأشباه رجاله لينقضّوا على كل الأحرار ليعبثوا بالأجسام والأفهام والأقلام ويأبوا إلا ألا يجعلوا "الهولوكوست" واقعة فريدة في التاريخ، بل متكررة هنا وهناك من أرض الطهر الشاهدة على الجباه الصادقة والدماء الزكية.
والأصوات المبحوحة والعائلات المهاجرة إلى حيث الكرامة، التي طهرت هذه الأرض من كل جنس، ونقلت للعالم مشهداً نادراً لا يستطيع المخرجون أن يعيدوا تصويره أو تركيبه، حينها اعلم أن ساعة النصر آتية ولو بعد حين
مَن يا ترى يتجرأ على محو ذاكرة ملحمة الأبطال، في موقعة انتصر فيها الدم على السيف؟ من يا ترى هذا الذي بلغت وتبلغ به الوقاحة أن يدين الضحية ويصفق للجلاد؟ حتماً هو من معسكرهم يبطش لبطشهم ويدق طبول الحرب لإبادتهم ويغني راقصاً وجاثماً على محرقة الإنسان.
من يا تُرى أقحم عنوة في معجم اللغة قاموس الاختلاف على الجرم والنكاية الحاقدة على الضحية والتغطية على الوحشية بعنوان "وجهة نظر"؟!
من يا ترى قمع دموعه ليصرفها في مشهد درامي يصدره إلينا عبر حلقات تلفزيونية يتيه فيها الزمان والمعنى والواجب ويتقن من خلالها "فن البكاء"، بينما يجفف ينابيع دموع الإنسان فيه على إبادة الإنسان بآلته التجفيفية الحاقدة؟! من يا ترى أدان القتل وتوارى مختبئاً حتى لا يدين القاتل؟ من يا ترى تعرت عورات مكنوناته الدفينة في لحظة قتل الأمل والوطن والإنسان، ليفتح أبواب العاصمة لـ"هولاكو"، مرحباً به وقد زين له الطريق بأفرشة الدماء اليابسة وجثث أبناء الوطن المحترقة، وهو حتماً سيكون الجثة القادمة التي ستطأ عليها أقدام هولاكو وجيشه، بعدما تنتهي مسيرة الجثث المفروشة، "فهولاكو" لا يتقن المشي سوى على الجثث، ويفهم الترحيب جبناً واستسلاماً، ولا يضم إلى صفه سوى الأوفياء له الذين يتقنون معجم الدم وقاموس القتل ولغة النفي والإقصاء.
لقد التحمت ملحمة الثبات والصمود في "رابعة" مع محرقة الجبن الوحشي لتصنع لنا تاريخاً ورمزاً ليس بمقدور أحد أن يزيلهما من خارطة الذاكرة والقيم.
"رابعة" تعني أن يعقد الرجل والمرأة والابن والشيخ والشاب والفتاة العزم على الرحيل إلى أرض يخطون بها وعليها ومنها الموقف فتلك أم الملاحم، وأن تنحني الجباه لتعلو الأرواح راجية ربها أن يفرغ عليها صبراً ويثبت أقدامها، بينما الجرافات تتقدم، والقناصة يحضرون مقام القتل، وسيد الجبناء يردد كلمات التهديد والوعيد، فتلك عروس الملاحم.
"رابعة" تعني أن يواجه الدمُ الرصاصَ، والحجر المتناثرُ الخراطيشَ القاتلة، ووسائلُ الحماية المتلاشية الجرافاتِ الزاحفة، وصيحاتُ الإغاثةِ أصواتَ الطلقات النارية الكثيفة، ونسائمُ الصباح النقيةُ الغازاتِ الخانقة، فاعلم أننا أمام قمة الملاحم.
إن رابعة هي أن تكون هذه الملحمة الفريدة التي سجلها شهداء الصمود وأبطال الثبات خطاً دفاعياً على أمة بكاملها معتقلة في قرارها وإرادتها، فذاك وسام عظيم لا يناله إلا أصحاب السمو والرفعة الذين يشهد لهم التاريخ وتشهد لهم الجغرافيا وذاكرة المفاهيم والقيم والأمة أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدَّلوا تبديلاً، منهم من قضى نحبه شهيداً شامخاً كالأشجار التي لا تموت إلا واقفة، ومنهم من لا زال على طريق الثبات على الحق، وثباته هو الحياة بعينها لأمة ولشعب ولمبدأ لا محيد عنه ولا تنازل: سمو الإرادة الشعبية العامة بدون تحريف ولا تحوير ولا تبرير ولا إجهاز، ومنه حياة لربيع أمة لن يموت ولو كره المستبدون والظالمون وقتلة الإنسان والإرادة الحرة.
لقد كانت رابعة فرقاناً نبهني إلى أن امتحان الكلمات والأقوال والأشعار والأقلام هو بالمواقف الحية التي تمشي على الأرض لا التي تحلق في السماء، رابعة أيقظت في معيار الإنسان في تقويم الإنسان والجماعات والمواقف والشعراء والكتاب، رابعة لن أنساكِ وسأتذكرك بكِ وبمن تشمت بروادك وشهدائك، رحم الله شهداء رابعة وغفر الله لكل من مات على موقف معادٍ لأهالي رابعة وشهدائها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.