في أوج ثورات الربيع العربي انكشف تيار عربي، حمل صبغة "القومي"، بمواقف مرتبكة مع مطالب الشعوب بالحرية والعدالة الاجتماعية، بعد عقود من اهتراء أنظمة الكذب باسم "العروبة والتقدمية".
في حضرة الثورات المضادة اجتمع رهط أصحاب الارتباك، متحسرين على تمثيلهم الركيك في الشارع. ومِثْلهم شَعَر تيار يسمى "يساراً" في ركاكة تنظيراته المتناقضة عن البروليتاريا وحق الشعوب بالثورة على الاستبداد. فخروج الجماهير من المسجد شكل مبرراً لتأففه، فإما أن تقبل الشعوب به قائداً لتحركاتها، أو تُتهم بالجهل والتخلف، بل وبأنها "غير مستحقة للديمقراطية".
ليس ثمة ورقة توت سقطت عن "القومي العربي" ولا ذهاب رموزه إلى قصر المهاجرين في دمشق. ففي مصر سقطت كل الأوراق منذ أن بارك رموز "التنوير" و"القومية" و"الليبرالية"، وغيرها من مسميات الانتحال، مذبحة رابعة، إما بالتحول إلى شهود زور على "30 يونيو"، أو الاختباء خلف الصمت مع 10 سنوات على الانقلاب على أول رئيس منتخب، الراحل محمد مرسي. غابت عنتريات "الزند" في صفوف القضاة، وغيرها من نقابات، مثلما غُيب وِنْش خلع باب قصر الاتحادية في القاهرة، ولاذ مهرجو التنفيس (في التوك شو)، واستبدل بعضهم "الشيلة" بأن فتحوا نيرانهم على شعب مصر الصابر، الذي باسمه قضوا على منجزات ثورة 25 يناير.
ليس ثمة مفاجآت في ذهاب مرشح رئاسي أسبق مثل حمدين صباحي إلى حضن الديكتاتور السوري في دمشق بشار الأسد.
فحالة التفجع التي أظهرها البعض هي التي يمكن أن تكون مفاجأة. والصورة في قصر المهاجرين تعبير عن حقيقة تيار أوسع لربعه على المستوى العربي. ففي الوقت الذي كان فيه نظام الأسد، بمعية إيران وميليشياتها، يدكون قصفاً ومذابحاً وتهجيراً "عرب سوريا"، من حمص إلى حوران، ومن داريا بريف دمشق إلى قصف مسجد عثمان بن عفان في دير الزور، كان تيار الانفصام القومي يعبر عن تفجعه في إربد وعمان ورام الله والناصرة والقاهرة وتونس والجزائر، إلى بغداد مؤخراً، والتي تنظر ميليشياتها الطائفية باسم فلسطين و"الممانعة"، وهي التي طردت أصلاً فلسطينييها نحو البرازيل وتشيلي بعد القدوم على دبابات الغزو الأمريكي في 2003.
أيذكر القارئ كيف كان زعيم ميليشيا حزب الله الإيراني في لبنان يرفع أعلام دول الربيع العربي؟ وكيف سميت في أدبيات وإعلام إيران وتوابعها بـ"الصحوة الإسلامية"؟
لعل استذكار نتف من ذلك التاريخ يوضح الصورة.
فما أن حطت ثورات الربيع العربي رحالها في سوريا حتى "ضبضبوا" (جمعوا) كراسي "الهمروجات" الدعائية، وأزيلت ميكروفونات التغني بشوارع العرب، محيلة إياها إلى "متآمرين" في سياق "مؤامرة كونية". حتى إن السوري اتهم بتعريض نفسه للقتل لأجل "سندويشة فلافل و500 ليرة وحبة هلوسة صناعة الجزيرة ومجسماتها"، وبقية الحكايات المبكية – المضحكة في الكوميديا السوداء لإعلام "الممانعة".
وبمعنى أدق "سقوط نظام كامب ديفيد"، كما ردد الفرحون في المشرق العربي بالثورة المصرية، لم يكن تالياً سوى جزء من مؤامرة وزيرة خارجية أمريكا السابقة كوندليزا رايس، وباسم "الفوضى الخلاقة".
وليصل جمع الثورات المضادة إلى قعر الانتهازية والنفاق، فلم يكن دخول منتحلي القومية العربية، من مشارب مختلفة، إلى قصر المهاجرين، بمن فيهم من اغتصبوا اسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ورموا إرث جورج حبش الثوري في سلة نظام كيماوي، ومهجر شعبهم من مخيم اليرموك ومرتكب مذبحة "حفرة التضامن" وأخواتها، واستمرار احتجاز آلاف شبابه وشاباته، إلا تذكيراً آخر بزهايمر "الثورجية"، عند من لا يعنيه مآسي الآخرين.
فأحدهم، مطلق أكاذيب "جهاد النكاح" ونعت السوريين بـ"الوهابية" و"العراعير"، يتمختر على أطلال تحول "قلب العروبة النابض" إلى قبضة مرتزقة مستجلبين من إيران والباكستان وأفغانستان والعراق ولبنان، وعتاة التطرف القومي الأبيض من روسيا ومن بين فاشيي ونازيي أوروبا.
إن حمدين صباحي في نهاية المطاف ليس سوى نموذج فج لحاملي منشفة مسح الدم عن أيادي الاستبداد، ليس في الشام وحدها، فنفاقهم متواصل من تونس إلى القاهرة فبيروت فبغداد ودمشق وصنعاء، وبقية "مدن الملح".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.