إسطنبول هي عاصمة تركيا، وهي أكبر مُدنها، وتبلغ مساحتها الإجمالية 5461 كلم مربع وعدد سكانها أَزْيد من 15 مليون نسمة. وهي المركز المالي والتجاري والصناعي الرئيسي لتركيا وهي، أيضاً، العاصمة الثقافية للبلاد.
وتمتاز مدينة إسطنبول، بحسب موقعها الجغرافي، بصفتين اثنتين: انتماؤها إلى قارة أوروبا وانتماؤها إلى قارة آسيا: فهي تقع على مضيق البوسفور، وطوله 32 كلم، الذي يفصل بين آسيا وأوروبا ويربط البحر الأسود ببحر مرمرة. وتعتبر إسطنبول، بهذه الأوصاف، مدينة عابرة للقارات Transcontinental city. وقد تَم إدْراج هذه المدينة ذات الانتماءَين في قائمة اليونسكو للتراث العالمي منذ عام 1985.
وهذا الانتماء المزدوج الذي تَحظَى به هذه المدينة دون سائر مدن العالم، مضافاً إليه عاملُ التنوع الثقافي والتاريخ، إذْ كانت مركزاً لحضارات مختلفة، كل أولئك وما ينشأ عنه من آثار دائمة وتأثير متواصل وامتزاج للأفكار والقيم وتزاوج للألوان والأذواق هو الذي جعل إسطنبول مدينة هي نَسِيج وَحْدها وأَهَلها، لأنْ تصبح قِبلة السائحين من كل العالم ووِجْهة الكتّاب والباحثين، ومَقْصد أُناس كثيرين يطلبون فيها سُبل العيش وقضاء المآرب وتحقيق الرغبات والآمال.
ما هو السِّحْر الخَفي لإسطنبول؟
وكل الذين يزورون إسطنبول ويتقلبون في أحضانها يُجمعون أن لهذه المدينة سِحْراً خفياً لا يُقاوَم يَشعرون به يَملكهم فيَسْتَنيمون له ولا يجدون منه خَلاصاً. فمِن أين اكْتسبت إسطنبول هذا السِّحر الذي ما انفكَ يُلازمها ولا يَسْلَم منه زائرُها؟ ومِن أين اكتسبت هذه المدينة جاذبيتها التي ما فَتِئ يَسْتَنيم لها نَزيلُها؟
قد يقول قائل إن السبب هو موقعها الجغرافي الذي سبقت الإشارةُ إليه، وانتماؤها إلى قارتين اثنتَين، وهو وَصْف لا تُشاركها فيه مدينةٌ أخرى في العالم. وهذا الجواب، لا شك، قد تضمن رأياً صحيحاً، ولكنه يظل جواباً ناقصاً إذا لم يَكُن مشفوعاً بتَتِمة تزيده إضاءةً وتَجْلُوه.
ويَقوَى الاعتقاد، عندي، أن سِحْر إسطنبول الخَفي إنما يَعود إلى تاريخها العريق وما تَعاقب عليها من حضارات شَتَى وأقوام مختلفين، منذ آلاف السنين، وما نشأ عن هذا التعاقب والاختلاف من نَسيج ومَزيج وتزاوج وانْصِهار ومُثاقفة وانْبهار وما خلفه هذا وذاك من أفكار وإيحاءات وقيم وثقافات وخاصة ما عَلِق بها أو ما عَلِقَتْه من فترة الحُكم العثماني الطويل وما أصبح لصيقاً بها وجزءاً من هويتها منذ أنْ اتخذها السلاطين العثمانيون عاصمة لهم مدة تزيد على 4 قرون، فَبَسطوا سيطرتهم ونُفوذهم على مناطق كثيرة في أوروبا وآسيا والعالم العربي.
وكان نتيجة هذا الحكم الذي امتد قروناً بأحداثه الكبرى وتقلباته الجُلَى أنْ أصبح العالم كله موجوداً في إسطنبول، أيْ في الأستانة آنذاك، مركز الخلافة الإسلامية ومدينة السلاطين الغالبين يتوافد عليها صباحَ مساءَ وفي كل لحظة وحِين، في السَّراء والضَّراء، وفي أيام السلم وحِين الحرب أَقوامٌ من كل الأمصار والأصقاع والأقاليم.
فالموقع الجغرافي المتميز، إذنْ، والعامل التاريخي الذي يبدأ بمئات السنين قبل الميلاد ويمتد إلى الفترتَين البيزنطية والعثمانية، وما خلفه هذا التاريخ الطويل من قِيم وأفكار وإيحاءات وأسرار وبَصَمات وعلامات وأذواق وألوان وعواطف وأحاسيس وعِظم الآثار الشاخصة وضخامة الإنجازات الماثلة… كل أولئك، إذنْ، هو الذي جعل إسطنبول مدينةً عالمية Cosmopolitan city مفتوحة على العالم تَبسط يَدَيها، صباحَ مساء، تستقبل الوافدين إليها من كل حَدَب وصَوْب فَتَحْتَضنهم فيُؤْخَذون بسِحرها وتأثيرها.
وكل أولئك، أيضاً، قد يكون أحد أسباب هذا السِّحر الذي تتمتع به إسطنبول، وقد يفسر هذه الجاذبية التي تلازمها فيقع تحت تأثيرها كلُ زائر، ولا يَفْتَأ يذكرها كل مغادر. ولعل هذه الجاذبية وذلك السِحر هو الذي شَعَر به بونابرت نابليون ( 1769 -1821 ) فسَكَنه ومَلكه فأَنْطقه، فقال قولته الشهيرة: لو كان العالم كلُّه دولةً واحدة لكانت إسطنبول عاصمتها.
وخلاصة ما يُمكن أنْ يُقال في تفسير هذا السحر الذي تَملكه إسطنبول أنه لولا عامل التاريخ البعيد الذي تتشابك فيه الألوان والأذواق وتتعانق الثقافات والحضارات وتمتزج الولاءات والانتماءات وتَذوب فيه الحدود والقيود وتختلط الهواجس والإيحاءات وينتعش الزمان والمكان.
ولولا هذا الحضور العثماني الشاخص، ذو الإضافات النوعية البارزة، الذي صَبغ هذه المدينة بصبغته الخاصة وخلدها بِعِظَم المعالم والإنجازات وجعلها مدينة مفتوحة على العالم… لولا هذا العامل التاريخي، إذنْ، مُضافاً إليه ذلك الحضور العثماني الطويل المهَيمن ما كانت مدينة إسطنبول المدينة العالمية ذات الانتماءَين لِتَحظَى بهذه العناية والاهتمام، وما كانت لِتفوز بهذه الجاذبية والسِّحر.
بعض معالم إسطنبول ومواقعها الأثرية
إن إسطنبول مدينة عالمية تستحق عناء الزيارة وتكاليف التنقل للوقوف على بعض معالمها الكبرى وآثارها القائمة كحَجر المليون The milion stone الذي أُنشئ في القرن الرابع الميلادي، وكان مكان الانطلاق لحساب المسافات لجميع الطرق المؤدية إلى مدن الإمبراطورية البيزنطية، ومسجد السلطان أحمد الذي بُني ما بين عامي 1609- 1616 أو ما يُعرف، عند الغربيين، بالمسجد الأزرق، وكذلك آيا صوفيا التي تُقابله فتُؤانسُه وتتلقَى، يومياً، صَداه ونَجْواه وهي أشهر كنيسة في العهد البيزنطي وأول جامع يصلي فيه السلطان محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية سنة 1453، وقد حُولت إلى متحف منذ 1935 في عهد أتاتورك، ولكنها حُولت، مرة أخرى، إلى مسجد بمُوجب مرسوم رئاسي في 10 يوليو 2020، بعد قرار المحكمة الإدارية العُليا، في تركيا، بإلغاء وَضْع آيا صوفيا كمتحف.
وكذلك يستحق الزيارةَ والطواف مسجد سليمان القانوني، عاشر السلاطين العثمانيين، الذي بناه أكبر المعماريين العثمانيين، في التاريخ الإسلامي، وهو سنان باشا ما بين سنتي 1550-1557.
ويُماثله في الأهمية والشأن قصر تُوبكابي العظيم، المعروف أيضاً باسم الباب العالي، الذي بدأ بناؤه سنة 1459 وسكنه 25 سلطاناً عثمانياً ما بين سَنَتَي 1465- 1853. وقد كان، قُرابة 4 قرون، مصدر القرار ومركز الحكم الذي تُصنع فيه سياسة الإمبراطورية العثمانية ومقام الهَيْبة وقبلة القاصدين. وقد أصبح، اليوم، متحفاً تُعرض فيه آثار العثمانيين والآثار المقدسة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وكذلك تستهوي الزائرَ جزرُ الأمراء في بحر مرمرة وخاصة المَأهولة بالسكان كجزيرة بُويُوكادا الهادئة التي يقصدها غالبية السائحين لتوفرها على كل المرافق العامة الضرورية ولخُلوها، كذلك، من حركة السيارات. ولا تتم زيارة إسطنبول دون التعريج على أسواقها وأحيائها التاريخية كالسوق المصري للتوابل والعطور التي كانت تأتي من الهند عبر الموانئ المصرية. وقد بدأ بناؤه سنة 1597 واستمر إلى غاية 1664 والبازار الكبير الذي بُنِي في عهد محمد الفاتح، ويشتمل على أكثر من 60 شارعاً و4000 دكان وبضعة مساجد.
أما حي أيوب ففيه مَدْفن الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري ومسجده. وهو أول مسجد بناه العثمانيون في إسطنبول سنة 1458. وقد أصبح الحي وكل ما حَوله منطقة سياحية تمتلئ حركةً وتجارةً يقصدها أهل البلد والأجانب على السواء.
أما ميدان تقسيم، وأَصْل التسمية يعود إلى شبكة قنوات المياه التي تتجمع في هذا المكان وكانت تتولَى تقسيم أو توزيع المياه على أحياء المدينة، فلا تكتمل الزيارة دون الوصول إليه والتجول في شارع الاستقلال المتفرِع عنه وطُولُه بضعة كيلومترات وتنتشر على جانِبَيه المحلات التجارية المختلفة ويسلكه ،يومياً، الآلاف من الناس أتراكاً وسائحين.
وعلى العموم، فالمدينة تزخر بالشواهد والآثار، وخاصة ما يَعُود منها إلى فترة العثمانيين: فآثارهم الشامخة ذات القوة والمَنَعة قائمة شاخصة تصاحبك في كل خطوة وسَيْر وتصادفك عند كل زاوية وشارع وتستوقفك في كل صُعود ومُنْحدَر.
إسطنبول المدينة العالمية التي تمتزج فيها الحضارات والثقافات
إن الذي يَلفت الانتباه، في اسطنبول، ويَنْقلك في سياحات بعيدة عبر الزمان والمكان هو هذا الامتزاج الحاصل بين الأذواق والألوان والرُسُوم والشِيات والأهواء والميولات والقيم والأفكار والأساليب والاتجاهات والروائح والعطور والأطعمة والأطباق… وكل ذلك يتخلله صوتُ الأذان النَدي الذي يَخترق الفضاء بين الحِين والحين، فيضيف جمالاً آخر وبُعداً آخرَ إلى هذه المدينة الساحرة التي تعرضت لتأثيرات كبرى منذ ألفَي سنة أو تزيد.
ولكن الزائر لإسطنبول، بعد الامتزاج بمناخها والتقلب في أحضانها والاختلاط بسكانها والمُقيمين فيها، يكتشف أن إسطنبول ثقافة أخرى لها طَعْمُها الخاص ولونُها المتميِّز وهي رُؤية للعالم مختلفةٌ صنعتها تأثيراتُ الماضي البعيد وصَقَلتها الأحداث الكبرى المتعاقبة على هذه المدينة التاريخية إلى يومنا هذا.
والحق أن سِحْر إسطنبول لا يشعر به الزائر في نهاية الرحلة أو في وسطها، بل إنه لَسِحْر يتجدد في كل يوم جديد، وكأنه يتعاظم بين اللحظة وتِلْوها فيتمكن من زائرها، فيستجيب له ويرتاح.
إن إسطنبول هي المدينة ذات الانتماءَين، وهي المدينة العالمية التي تتميز بالعَراقة والتنوع وقد كانت منذ آلاف السنين، ولا تزال إلى اليوم، حلْقة اتصال بين الشرق والغرب. وهي بهذه الأوصاف جميعاً تستحق عناء الزيارة وتكاليف التنقل. وهذه هي إسطنبول التي زُرتها: ففي أحضانها أَحْببتها وبعيداً عنها أَذْكرها وفي هذه السطور أَكْتبها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.