اعتدت الكتمان منذ طفولتي، ربما لهذا كانت زميلاتي يعتقدن أن الأستاذ حين يعاقب الفصل بشكل جماعي، يضربني بصورة أخف من الباقين، لم أكن أبكي، ولا أبدي حتى ملامح تأثر ولو بسيطة، حين ترتطم عصاه بيدي، فتحيلها إلى اللون الأحمر، لم أكن من النوع الذي يرتكب الأخطاء، لذا كانت مرات ضربي معدودة، حين يكون العقاب جماعياً للفصل بالكامل، وليس لمن أخطأ وحده، كنت أقول لي وقتها: "لم أخطئ، وهذا ظلم، لكنني لن أبدي تأثراً.. لم أخطئ وسوف أوهمهم أنني لم اتألم".
قوة أم نكران؟
ما القوة في عدم إبداء التأثر؟ يحسب البعض الأمر "بلادة" فيما يراه آخرون "صلادة"، وما بين هذا وذاك، وجه لا يحمل الكثير من التعبيرات، لامرأة تحمل نفسها مسؤولية كل شيء، حتى وإن كان من فعل الآخرين، الإيذاء، الخيانة، الخذلان، الاستغفال، كل وأي فعل مؤذ هو بالنسبة لي نتيجة طبيعية لأفعالي أنا، وأنا من يجب أن يصمد ويصمت، ويتصرف بهدوء وروية، دون جلبة أو بكاء.
بعض الضربات يمكن احتمالها، لكن القدر أراد اختباري بعدد من الضربات التي لم أحتملها، هكذا علا صوتي بالألم، فصرت أروي ما جرى لي كالملسوعة دون توقف، حتى عيناي اللتان فقدت الأمر فيهما من قبل أن تبكيا ولو على سبيل التجربة، راحت تمطرني بدموع جفت معها عياني، وصارت الرؤية مع الوقت ضبابية حتى نصحني الطبيب بالكف عن البكاء، لكنني صمت، ولم أخبره أن الأمر صار صعباً، وخارج إرادتي، إنني أبكي كلما تذكرت، أبكي لأنني احتملت في صمت حتى ضاق الصمت بي!
أكبر خسارة في حياتي
أتعلم، أسوأ من الخسارة، أن تنكرها، أن تدعي أن شيئاً لم يحدث وأنك قوي، وأن كل شيء على ما يرام ، تماماً كما هو سيئ أن تبكي وتملأ الدنيا صراخاً وعويلاً.. ما العمل إذاً؟ الكتمان كرب والعويل هوان.. ما العمل؟
لقد خسرت كل شيء، أستطيع أن أخبرك كيف هي الخسارة في الحقيقة، الأمر يشبه مرارة العلقم في فمك، مرارة مؤذية جداً، لكنك تضطر لأن تبتسم وتدعي أنك ذقت الشهد لتوك.. وأن التجارب تبني وأن الخسارة مكسب لنفسك، وأنك تعلمت الدرس وصرت أقوى، وما إلى ذلك من هراء.
الخسارة مؤذية جداً، كالحرث في الماء، الخسارة ليست من المال أو الوقت والبشر وحسب، فمع كل خسارة تفقد بعضاً من روحك ، تفقد أمانك وثقتك في نفسك، الغباء ذاته الذي قادك لخسارتك ومرارها سيقودك بالضرورة لخسائر تالية، المقدمات المتشابهة تقود للنتائج ذاتها أنت تعلم بكل تأكيد.
أرغب في أن أركل الكون في صميم قلبه، أن أخبر كل ذرة على هذا الكوكب أن المسألة لا تستحق العناء، أرغب في أن أبقى صامتة للأبد. الحديث مهمة ثقيلة وشرح ما جرى إهانة في حد ذاته، يقولون إن ذلك اكتئاب، لكنني أقول لك إن تلك هي الحقيقة المرة، معرفتها كرب ونسيانها حماقة .
حتى الانزواء بلا فائدة، لن يريحك، وسوف تستعيدك الحياة لتضعك من جديد في الأتون ذاته تصهرك وتصنع منك نسخاً أسوأ تبكي بصورة أكثر مرارة لكنك تتذكر أن هذا لن يجدي، لا البكاء ولا الصمت، تنخرط في عالم من التيه حيث لا شيء يريح القلب سوى النسيان، حين تخذلك ذاكرتك، تنسى الأحداث والتفاصيل وتبقى غصة هناك أو بالأحرى ندبة تذكرك أنك لست على ما يرام.
الدرس المستفاد
أكبر خسارة إن لم تكن إجابتي واضحة، هي خسارة المرء نفسه، احتماله لما لا يحتمل، واستمراره في أمور لا تستحق عناء المواصلة، الدرس المستفاد أن الرثاء للذات أمر حزين، لكن لا بأس ببعض التعاطف مع النفس، لا بأس ببعض الانهيار، لمحاولة استيعاب ما جرى، لكن الأهم هو التخلي عن الكبرياء الزائف، والمسؤولية الوهمية، والاحتمال غير المحتمل، والقضايا الخاسرة، والأحمال الزائدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.