حين اقترب المسير من دياره وجد رائحة فجيعة، لكنه كأي غريب كذّب حواسه وحدسه، ومضى بشعوره الذي انطلق به قافلاً من غربته إلى أهله وأحبابه، اللقاء الذي يحيي الروح والجسد كالمطر أصاب أرضاً فاهتزت وربت، وقف على الديار وهي خراب متهدمة، غير مصدق ما حدث، ذهب النور منها مع ثمرات الفؤاد، بقلب مكلوم وظهر أثقلته الصدمة جلس أسامة بن منقذ على بقايا جدار متهدم يحاول أن يلتقط أنفاسه، لوعة وحيرة، ألمٌ يصعب احتماله، يحاول أن يستوعب أنه حين كان غائباً عن دياره أصابها زلزال مدمّر فلم يعد يعرف داره ولا دور إخوته، صدمة من الممكن ألا تحتمل، لكن ولأنه الأديب الذي عاش في عالم الكلمات، فقد وجد العزاء في كلمات الشعراء، فعكف على جمع كتاب تتصل فيه مأساته بمأساة كل الذين من قبله، فنظم ما قيل في بكاء الأطلال وذهاب الأحبة وفواجع الدهر تحت عنوان عذب حزين هو "المنازل والديار"، لعل ابن منقذ قد انتبه إلى قوة الشعر في مداواة النفس، أو أنه سار على نهج مجنون ليلى الذي قال:
فَما أُشرِفُ الأَيفاعَ إِلّا صَبابَةً
وَلا أُنشِدُ الأَشعارَ إِلّا تَداوِيا
ماذا يمكن أن يمنحنا الأدب في أوقات الشدة وما بعد الصدمة؟ وهل بمقدوره أن يكون عاملاً مساعداً على الشفاء والتداوي من الآثار النفسية المدمرة والضغوط؟
أساطير التخلي عن الأدب
بداية يجب أن نصحح المفهوم السائد في عصرنا عن الأدب والفن، فالناس يعتقدون أننا بتنا في عصر العلم، لا نحتاج إلى الأدب والفن إلا كرفاهية مثل بقية الرفاهيات الحسية التي يمكن الاستغناء عنها، بل وصل الأمر إلى الدعوة للاستغناء عنهما فعلاً، مثلما فعل الكاتب الإنجليزي توماس بيكوك، الذي صوَّر الشعر على أنه عودة إلى الهمجية في عصر العلم، فيما رد عليه زكي نجيب محمود في مقال مطول تحت عنوان "الأدب والحياة"، مستنداً إلى فلسفة الشاعر الهندي طاغور في تعدد حاجات الإنسان، والتي لا يستطيع أن يقوم عليها العلم المادي وحده بأي حال، بل إن زكي نجيب محمود يؤكد أنه لو خُير عاقل بين العلم والأدب فسيختار حتماً الأدب، لأنه أوثق صلة وأقرب رحماً للنفس الإنسانية، فإن كان العلم يحاول الاتصال بسنن وقوانين الطبيعة لتيسير الحياة وتجويدها، فإن الأدب يتصل بالنفس في مشاعرها وأنينها، في مسراتها وأوجاعها، ولعلنا نلحظ ذلك في سيرة الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار ذلك القادم من أرض العلم الجافة القاحلة إلى واحة الشعر الغامضة والغناء، ليكتب عن شعرية الأشياء وخاصة العناصر الأربع التي يتشكل منها وجودنا المادي، وهذا نفسه الذي دعا كارل يونغ إلى تأسيس ثانٍ لعلم النفس، استطاع فيه تحريره من أسر التحليل المادي البحت ووصله مرة أخرى بالوعي الإنساني القائم على ما وراء المادة، الوعي المتصل بالدين والأدب والشعر.
من هنا نستطيع أن نتخيل ما هي إمكانات الأدب وطبيعة اتصاله بالحياة، وبشكل أخص بقدرتنا على التعافي والشفاء من الصدمات والتعامل مع واقع الحياة وأزماتها.
ماذا بإمكان الأدب أن يفعل؟
في فصل بديع من كتاب "الأدب في خطر" يحكي المفكر والكاتب الفرنسي تزفيتان تودوروف حكايات عما باستطاعة الأدب أن يفعله لنا، من ضمنها تجربته الشخصية مع الأدب التي قال عنها: "لا يمكنني الاستغناء عن الكلمات والشعراء، عن الحكايات والروائيين، فبفضلهم يمكن أن أعطي شكلاً لأحاسيسي التي أشعر بها، وأن أنظم نهر الأحداث الصغيرة التي تشكل حياتي"، بهذا الشكل ينتظم تودوروف ضمن مسيرة إنسانية تستدعي الأدب ليكون طوق نجاتها على الدوام، حدث هذا مع جون ستيوارت ميل حيث تحدث في سيرته الذاتية بأنه تعرض لضغط نفسي شديد حين كان يبلغ 20 من عمره جعله يفقد الشعور بأية لذة وفقدان الحماسة لأي أمر حد أن تمكنت التعاسة منه، استمر هذا سنتين حتى وقع في طريقه ديوان شعر للشاعر الإنجليزي ويليام وورد سوورث، وكان لهذا الديوان الفضل في نجاته من تلك الحال المفجعة، لقد بدا الكتاب له كعين يستقي منها الفرح الداخلي وملذات الحنو والحنان، أما شارلوت دلبو الفتاة الفرنسية التي سجنت في زنزانة انفرادية إبان الاحتلال الألماني لفرنسا دون حق في اقتناء الكتب، فالذي خفف عنها وحدتها وآلامها هو الكتاب الذي أحضرته من الزنزانة التي تحت زنزانتها عبر ضفيرة صنعتها من خيوط غطاء النوم مستعيرة إياه من سجينة كانت تملك حق الاقتناء الذي حُرمت منه.
من تلك النماذج يخلص تودوروف إلى أن الأدب قادر على فعل أشياء كثيرة، قادر على أن يمد لنا يده حين نكون منهارين، ويقودنا نحو الكائنات الإنسية الأخرى الموجودة حولنا، ويساعدنا على فهم أفضل للعالم والحياة، بل إن تودوروف يعتبره قبل كل شيء تقنية تحافظ على الروح، فهو قادر على تغيير الأشخاص من الداخل وخلق التعاطف.
ونقلاً عن ريتشارد رورتي "الفيلسوف الأمريكي" يؤكد تودوروف أن الأدب لا يعالج جهلنا بقدر ما يساهم في معافاتنا من مرض الكلام عن الذات.
يصل تودوروف إلى ذروة تأمله في وصفه للأدب أنه يفتح إلى ما لا نهاية إمكانية التفاعل مع الآخر، هكذا يساهم في إغنائنا إلى ما لا نهاية، يجعلنا نشعر بأحاسيس تجعل العالم الواقعي مليئاً بالمعاني وأكثر جمالاً، وبعيداً عن كونه مجرد زينة وملهاة خاصة بالمثقفين، فإنه يسمح لكل واحد بتحقيق نزوعه إلى أن يكون إنساناً.
ما تدمره الحرب يرممه الأدب
وليام تشيستر مينور، جراح أمريكي خدم في جيش الاتحاد خلال الحرب الأهلية الأمريكية، تأثر بأهوال الحرب، ورغم سفره إلى بريطانيا فإنها تبعته إلى هناك، لاحقته الأوهام والهلاوس حتى دفعته لقتل رجل، الأمر الذي دفع به إلى السجن، وهناك عرف بإعلان يطلب متطوعين للمشاركة في قاموس أكسفورد، راسل القائم على المشروع ومن خلال نهمه للقراءة شارك بآلاف الاقتباسات من الكتب في إعداد القاموس، هذه المشاركة رممت بعض الثقة التي فقدها وانتشلته لوقت طويل من الأوهام، لكن أهوال الحرب كانت أقوى من أن تغلب، وقد جُسدت قصة مينور في الفيلم الأستاذ والمجنون " The Professor and the Madman" لتبقى شاهداً على ما يمكن أن يمنحنا الأدب إياه حتى وسط الدمار.
يمكنك الاتصال الآن!
ما يجعل الأدب أداة مساعدة كبيرة للبشر أنه يمكننا من الاتصال على صعيدين، الاتصال بأعماقنا الداخلية والتعرف على طبيعة مشاعرنا، والاتصال بتجربة الآخرين والتاريخ البشري الممتد لمآسينا، وهذا ما يمثل لنا العزاء، لطالما كنا ننظر للأديب أو الشاعر كإنسان مصاب ومتألم، ثم تصاعدت مع حمى التلقي للأعمال الأدبية عمليات التوحد مع تجربة الأديب، والنظر إليها كتعبير يلتقي مع تجاربنا الخاصة، أحياناً يقترح الأديب مساراً للتعافي، وأحياناً أخرى تكون كلماته نفسها هي ذلك المسار، لكن الأمر لم يقف عند حدود ذلك الدور المساعد للأدب في مواساتنا وعزائنا، بل تعدى ليشكل نهج تعتمده برامج العلاج النفسي كأنواع علاج معتمدة، فنشأت مدارس عدة في هذا الصدد مثل:
السر في الحكاية: العلاج بالسرد
الحكاية قادرة على اختصار العالم لجزيئات لتعيد بناءها مجدداً كما لو كانت خلق خاص بها، كل حكاية أو مجموعة حكايات هي أداة تعيد تشكيل الواقع لنا حتى نرصده وتنشئ علاقات صريحة وتتجنب كل ما هو غير ضروري، وكان على الحكاية أن تتمتع بخيال خصب أصيل يتجاوز كل حدود الخيال التقليدي. هذا بالإضافة إلى لغة خاصة ترسم فضاءها وتجسده، الحكاية مرحلة يقف عندها الزمن، هناك مرحلة تسبقها وأخرى تليها، وهي إذ توقف الزمن فهي تمنح للحظة الخلود الإنساني الذي يربطها بتاريخانية الإنجاز البشري.
هذا باختصار ما تملكه الحكاية من إمكانات لفتت النظر إلى إمكانية استخدام السرد ضمن برامج العلاج باليقظة الذهنية، فالعلاج بالسرد يهدف إلى فصل المشكلة عن الشخص الذي يعاني منها، بحيث لا تكون مشكلة فردية وفقط، بل ضمن سياق اجتماعي وطبقي أوسع، فالسرد وفقاً لسيد محسن الفاطمي يمتلك القوة اللازمة لتطوير التحول الجذري للوعي، حيث يساعد في تنشيط حيوية الناس ومساعدتهم على التواصل مع تجاربهم المعيشية بشكل أكثر وعياً.
إن ما نتبناه من لغة سردية هو ما يحدد كيف نرى العالم وعلاقتنا به، وكيف نرى أنفسنا، لذا فإن فهم تلك اللغة وعلاقتنا بها والتحكم في الطريقة التي نحكي بها لأنفسنا أو الآخرين عما يحدث سيساعد بلا شك في تحسين يقظتنا الذهنية، وبالتالي عافيتنا النفسية.
قوة الكلمات: تيار العلاج بالشعر
في هذا الشأن نشأت مدرستان للعلاج النفسي، مدرسة عامة تقول بالعلاج من خلال البحث عن المعنى الذي بالعثور عليه نستطيع تحمل المتاعب والتخفف من الضغوط ومصادقة الآلام، وقد قاد هذا التيار طبيب الأعصاب النمساوي فيكتور فرانكل صاحب كتاب "الإنسان يبحث عن المعنى"، ومدرسة متخصصة استعانت فعلياً بالشعر والأدب كتقنيات علاجية، ولعل تلك المدرسة القديمة لها جذور تاريخية، حيث عالج سورانوس الطبيب الروماني مرضاه بالشعر والمسرح، ويقول الدكتور محمد سعيد حسب النبي "في عشرينيات القرن الماضي برز اسم الشاعر جريفر متحدثاً عن العلاج بالشعر، ثم تعزز اهتمامه في الخمسينيات بتعريف الناس بمصطلح العلاج بالشعر، والذي أصبح متداولاً بين طرق العلاج النفسي والتأهيلي في أمريكا، وقد طبق جريفر هذا العلاج وأسس ما يعرف آنذاك جماعة العلاج بالشعر في أحد مستشفيات نيويورك. ثم تلاه جهود الدكتور جاك ليدي في العلاج النفسي بالشعر في مستشفى كمبرلاند في بروكلين عام 1959″، وفي الفترة نفسها أشار الباحثان مايكل سميث وتويفورت إلى أن الأدب والشعر على وجه الخصوص يمكن أن يستخدم كعلاج في حالات المرض العقلي والنفسي، وذلك عن طريق مساعدة المريض على الحصول على معرفة أفضل عن نفسه وعن ردود أفعاله، ومساعدته أيضاً على تحقيق مستوى أفضل من التكيف لحياته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net