تحقيق المصلحة أو الفائدة الاقتصادية يحتاج إلى الاستقرار السياسي والأمني. مصطلح "اقتصاد السوق" مصطلح قوي الهيمنة في سياسات تركيا الداخلية والخارجية، لأنها فقيرة الموارد الريعية، وتعتمد على التجارة بصورةٍ أساسية. اقتصاد السوق يتطلب العلاقات الجيدة لضخ العملة الصعبة، بحجم دخول العملة الصعبة تنتعش المؤشرات الاقتصادية إيجاباً.
الاقتصاد أولوية لتركيا، لذا رُسمت السياسة الخارجية التركية هكذا، فكانت ملامح خارطتها قائمةً على تخفيف المشاكل وتحقيق التوازن بين ما استطاعت إليه أنقرة سبيلاً بين الدول والأطراف المُختلفة فيما بينها.
الأولوية الأساسية والمحدد الرئيسي للسياسة الخارجية التركية تقوم على استقطاب الاستثمارات الخارجية بما يتناغم مع مساعيها الداخلية، القائمة على إصلاح الوضع الاقتصادي، وفق سياسة رفع الفائدة مع استقطاب العملة الصعبة عبر السياحة والصادرات، وتسهيل مسار الحوالات المالية القادمة من الخارج، مع توسيع نشاط وحيوية الاستثمارات الخارجية في تركيا.
مبدأ السياسة الخارجية التركية بات موسوماً بمنطق "تركيا أولاً"؛ أي مبدأ المصلحة قبل كل اعتبار، لكن بخلاف مبدأ "أمريكا أولاً" تؤسس أنقرة هذا المبدأ وفق المصالح المتبادلة؛ "رابح– رابح"، وهذا طبيعي بحسبان أنها دولة إقليمية تعتمد استراتيجية التعاون مع الدول الأخرى، وليس الاستتباع كواشنطن.
السلاسة واللين والمهادنة في الخطاب الدبلوماسي، والتعامل مع الملفات السياسية الخارجية هو ما ستتسم به السياسة الخارجية في قادم الأيام. الهدف من هذه السلاسة هو رسم هوية الدولة الساعية إلى إحلال سلوكياتٍ دبلوماسية تشجع على حلول التسوية والانسجام.
ما تسعى إليه أنقرة لتحقيق توازن ليس سهلاً، أنقرة بعضويتها في الناتو وعلاقاتها الحيوية مع موسكو، وموقعها الجغرافي في منطقة غارقةٍ بالخلافات، وغيرها من العوامل التي تجعل المهمة صعبة. لكن في المقابل تتمتع أنقرة بقدرات دبلوماسية وعسكرية وتستحوذ على موقع هرمي ملموس في خارطة المعادلة الدولية، على نحوٍ يؤهلها لتحقيق التوازن المنشود ولو نسبياً.
في إطار سياسة التوازن ستمضي تركيا لتعزيز تعاونها وتواصلها مع الغرب، ممثلاً بالناتو والاتحاد الأوروبي، وفي المقابل ستسعى لتنسيق حلول تسوية مع موسكو في عدة مناطق، مثال ذلك منطقة الشمال السوري، مثلاً في سوريا، لتحقيق السياسة المذكورة بشكلٍ أفضل ترى أنقرة من الجيد إشراك الدوحة والرياض في سبيل مواجهة التعنت الإيراني الذي يُطالب بانسحاب أنقرة من عموم سوريا. وهكذا يبدو أن الأمر سيكون في جنوب القوقاز وأوكرانيا وغيرهما.
سياسة التوازن تتطابق مع سياسة التهدئة الإقليمية مع الجميع، لقاء تحقيق تكامل لصالح الاقتصاد، وأيضاً لتحقيق مصالحها الأمنية وفق التشاور وسياسة "رابح– رابح"، وهذا يشمل كافة دول الخليج ومصر واليونان، وحتى أرمينيا وإسرائيل، وبطبيعة الحال الدول الأوروبية. وبسياسة تنويع العلاقات المذكورة ترغب أنقرة في رفع مستوى علاقاتها دولياً، عبر تفعيل دورها في كثير من المنظمات الإقليمية.
ملاحظة مهمة في هذا الإطار، في حال وجود تهديد محدق من قبل أي دولة فجهاز الاستخبارات التركي مُوكل بمواجهة هذا التهديد، لكن دون تصعيد دبلوماسي، في سبيل عدم تأثير ذلك بشكلٍ ملموس على سياستي التوازن والتهدئة.
في إطار سياسة التهدئة الإقليمية تتبع أنقرة سياسة الحياد الإيجابي حيال القضايا الساخنة؛ السودان تحديداً، حيث ترى من الجيد دعم المبادرة العربية-الإفريقية بقيادة القاهرة، باعتبار أن ذلك يصب في مصلحتها القائمة على إبقاء الجيش السوداني ومؤسسات الدولة قائمة.
خلاصة القول: الاقتصاد أولوية تركيا في الوقت الحالي، بينما تنويع مسار العلاقات، وتطبيق التهدئة الإقليمية، مع تحقيق مصالح اقتصادية تكاملية، يعقبها تحقيق المصالح الأمنية عبر تفعيل جهاز الاستخبارات أكثر من الخارجية، هي أولويات خارطة السياسة الخارجية لتركيا في المرحلة المُقبلة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.