إن شرعية السلطة السياسية تُستمد أساساً من هدفها، ألا وهو تأمين الخير المشترك، أي تحقيق سعادة المجتمع ككل، لا المصلحة الخاصة للطبقة الحاكمة ونخبتها.
وكل حكومة لا تنزع إلى الخير العام هي حكومة أمر واقع تفتقد الشرعية، وتقوض جوهر الفعل السياسي بالارتكاز على القوة والهيمنة والاستبداد، عوض أن ترتكز على طاعة المجتمع ورضاه باعتبارها خادمة له. فالدولة ليست غايتها تحقيق الخير الخاص لحكامها، بل تحقيق الخير العام لكافة مواطنيها.
ذلك أن هدف السلطة السياسية تحقيق السعادة الجماعية والرفاه للكل، في حين يقوض الطغيان وحدة المجتمع وانسجامه، ويكرس الكره والحقد، ويسلب المجتمع كل فضيلة وخير، ويزدري النظام والحرية، وتحقيق العدل والمساواة، واحترام كرامة الإنسان. فالطغيان يشرّع كل الشرور الممكنة بديلاً عن الخير العام وسعادة ورفاه الجميع، إنه حكم بلا قوانين.
إن السيادة تكمن في القانون، لا في البشر، على حد تعبير أرسطو، ولذلك وضع الله الشريعة والمنهاج للبشر حتى لا يتعسف ولا يطغى بعضهم على بعض، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ (المائدة:48)، فالتشريع أمر مهم وضروري حتى تغلق كافة الأبواب أمام الطغاة والمستبدين والمتعسفين، وحتى يحمي المجتمع نفسه منهم، وحتى لا تُفتح الأبواب للاجتهادات الشخصية التي تتعارض في أغلبها مع المصلحة العامة، ولذلك نجد الله في القرآن قد فصل تفصيلاً دقيقاً آيات الإرث، حتى لا يترك للبشر منفذاً لظلم بعضهم البعض، وقوانين الميراث مثال حي للبشر حول كيفية بناء قوانين دقيقة وواضحة ولا لبس فيها، لغلق كل منافذ الظلم والطغيان على الحقوق والتعسف في ممارستها.
فالدقة والوضوح في القوانين والتشريعات تمنع التلاعب بها والسوء في تطبيقها. فغموض القوانين وعدم وضوحها هو المدخل لأصحاب النفوس المريضة لاستبداد الناس والتعسف معهم، بل هي المدخل لهؤلاء للاستيلاء على السلطة باسم حماية المصلحة العامة وتحقيق إرادة الشعب.
لقد تأسست نظرة الإسلام للسلطة على مبادئ وقيم أخلاقية واضحة ودقيقة، تكرس الحكم العادل، وتتعارض بشكل واضح لا لبس فيه مع كل أشكال الطغيان والظلم مهما حاول البعض تشريع الطغيان انطلاقاً من فهم ضيق وشخصي لمقاصد الإسلام وأهدافه وغاياته. فالإسلام والطغيان خطان متوازيان لا يلتقيان أبداً. لذلك نجد في القرآن إدانة كاملة للطغاة عبر التاريخ البشري، وكيف عاقبهم الله على طغيانهم وظلمهم، وأنه لا نجاة لهم إلا بالبدن ليكونوا عبرة للناس ورسالة للخلق أن الطغيان مصيره الهلاك والفناء. ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُون﴾ (يونس:92).
إن الإقرار ببشرية الحاكم هو منع له من الطغيان، لأن الطغيان يرتبط دوماً بصنع صورة عن الحاكم في أذهان العامة، ترفعه لمرتبة الإله، حتى يغتر فيضع كافة الناس دونه، ويصل به الأمر حد تنصيب نفسه فوق كل سلطة، وفوق كل محاسبة، فـ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الأنبياء:23).
لذلك حين قدم أعرابيّ على النبي محمد صلى الله عليه وسلم أخذته الرعدة ظناً منه أنه أمام أحد الجبابرة، فطمأنه النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم قائلاً: "هَوِّن عليكَ فإني لستُ بملِكٍ، إنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكلُ القَديدَ". فتواضع النبي صلى الله عليه وسلَّم مع النَّاس، ورفقه بهم، أنما هو تطبيق لما أمَره اللهُ تعالى فقال: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الحجر:88)، وقال: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء:215). وهو السنة لكل من يتولى أمر الناس والسلطة عليهم، ففي النهاية تلك الولاية ليست نابعة من إرادته الخاصة، وإنما هي اختبار له من الله، الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران:26). فلو أدرك كل طاغية أن السلطة لو دامت لغيره لما وصلت إليه لعلم أن الطريق السليم لها تحقيق العدل والمساواة، واحترام حرية الإنسان التي وهبها الله له، وكذلك صيانة الكرامة الإنسانية، وحرمة الإنسان عقلاً وجسداً. فلا تنكيل ولا تعذيب، ذلك أنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ في الدُّنْيَا (حديث شريف).
لقد أكد القرآن الكريم أن البشر يقادون بالحكمة والعدل لا بالظلم والطغيان، وقد حفل بقصص الطغاة ومصيرهم الأسود، وكيف نكل الله بهم لطغيانهم، في حين أمدّ العادلين بكل قوة وبأس، ومكّن لهم في الأرض، لأن العدل أساس العمران كما يقول ابن خلدون، والظلم أساس الخراب والدمار وانهيار الدول.
فالله بقدر ما مكّن ذا القرنين في الأرض لعدله، أغرق فرعون لظلمه للخلق وادعائه الألوهية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير الطغيان والاستبداد انطلاقاً من النص القرآني، ذلك أن الله وضع فيه أسس الحكم القائم على العدل بصورة واضحة لا لبس فيها، فالقاعدة التي لا تقبل الجدل أن الحكم (مهما كان شكله، ملكيّاً، جمهوريّاً، إمبراطوريّاً، سلطانيّاً) أساسه العدل، والمساواة، والحرية، والكرامة.
﴿وإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة:42).
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" (النساء:58)، والحاكم في النهاية ليس إلا فرداً من المجتمع، اجتمعت به شروط القيادة فتم اختياره منهم ليكون حاكماً عليهم له ما لهم وعليه ما عليهم، وهدفه منع تسلط بعضهم على بعض بالعدل والمساواة وتحقيق السعادة والرفاهية للجميع، بالتوزيع العادل للثروة، وأخذ حق الضعيف من القوي، وحق الفقير من مال الغني ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾ (الحشر:7). فالله يزدري البغي والظلم ويأمر بالعدل والإحسان. ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل:90)، وحين كلف الله داود بأن يكون ملكاً وحاكماً لبني إسرائيل كانت وصيته له العدل في إدارة شؤونهم، ﴿يَا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (ص:26).
فالعدل هو الرسالة الإلهية في الحكم بين البشر حتى لا يبغي بعضهم على بعض، ولا يبغي بعضهم على حقوق بعض، لما في الطبيعة البشرية من نزوع نحو السيطرة والهيمنة والإكراه للغير، فالأخلاق التي بشّر بها القرآن في الحكم هي الرادع لتلك النوازع، وإذا اختلت اختلّ المجتمع كله وساده الظلم والطغيان وأكل فيه القوي الضعيف وحلّت الفوضى محل النظام، وكثُر الفساد في البر والبحر.
إن المسّ بكرامة الإنسان وإهانته والتنكيل به وتعذيبه، الذي تحفل به الكثير من السجون في العالم الإسلامي أمر منكر عقلاً ونقلاً. فالله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام، كما أن للإنسان حرمة جسدية ونفسية حيّاً وميتاً، ولذلك حتى أثناء الحرب كان للنبي وصايا أخلاقية صارمة في التعامل مع المحاربين والمدنيين، ومنع منعاً تاماً المسّ بالمدنيين، وأوصى بالمعاملة الحسنة للأسرى من المحاربين. فما بالك بوصاياه لمن تسلّم أمر الرعية حاكماً وسلطاناً عليهم، فهو مسؤول أمام الله عن كل ظلم وبغيّ تتعرض له تلك الرعية، وهو مطالب بأن يقدم الحق لفقيرهم قبل غنيهم، ولضعيفهم قبل قويهم، وإلّا اختل ميزان العدل.
إنَّ إقامة العدل بين الناس أفراداً، وجماعاتٍ، ودولاً، ليست من الأمور التطوُّعيَّة التي تُترك لمزاج الحاكم، أو السلطان، وهواه، بل إنَّ إقامة العدل بين الناس في الدِّين الإسلامي تعدُّ من أقدس الواجبات، وأهمِّها، وقد أجمعت الأمَّة على وجوب العدل. قال الفخر الرازي رحمه الله: "أجمع العلماء على أنَّ من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل"، على حد قول الشيخ علي الصلابي.
إن مهمة العلماء بيان الحق للناس والكشف عن المقاصد السامية للإسلام، وتحويل تلك القيم والمقاصد لقوانين تعين الحكام على حكمهم حتى لا يطغوا ويستبدوا على الناس، وما يصاحب ذلك من مظاهر التخلف المعرفي والعلمي والانهيار الاقتصادي والتبعية والخضوع للغير. ولعل وضوح المقاصد الواجبة الحفظ والحماية والرعاية، وهي خمس معلومة: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعرض يجعل من أمر تحويلها لقوانين وشرائع أمراً في غاية الأهمية لسد أبواب الفتنة، التي تستمد شرعيتها ونارها من الطغاة والمستبدين. فلا استقرار للدول العربية والإسلامية ما لم يؤسس الحكم على العدل والمساواة وحفظ حرية وكرامة الإنسان. ولا يتحقق ذلك إلا بدساتير وقوانين دقيقة وواضحة، تحمي الكل من الكل، ذلك أن العقود الاجتماعية توضع من أجل مصلحة الكل، ولفائدة الكل، ولعل في صحيفة المدينة درس للجميع في كيفية تنظيم العلاقات السلطوية والاجتماعية بين أعضاء المجتمع بما يحفظ حقوق الكل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.