في ستينيات القرن الماضي، قدّم الفكر الفرنسي في علم الاجتماع كوكبة من الفلاسفة الذين تناولوا مواضيع حساسة في ظرف أكثر حساسية، كالماركسي ميشيل كلوسكارد، وبيير بورديو، وجون بودريار، إذ عرف العالم حينها تحوّلاً كبيراً شبيهاً بالثورة الصناعية البريطانية، حيث كان يتعرض المجتمع لفترة انتقالية كُبرى، اصطدم فيها بمفاهيم جديدة في السوق والتجارة والتعاملات، تحت لواء أساليب وسياسات اقتصادية وتكنولوجيا جديدة.
رغم ذلك تميّز جون بودريار عن غيره؛ فقد عاشَ ما يكفي ليفكّك ويشرح النزعة الاستهلاكية داخل النظام الاجتماعي والاقتصادي الحالي، أو ما يعرف بـ"مجتمع الاستهلاك"، والذي يوضح كيف تؤدي فيه الزيادة الإنتاجية إلى تكاثر السلع التي سيتم استهلاكها، ما يخلق احتياجات ورغبات لا تنضب، فيصبح بذلك الاستهلاك هو العنصر الهيكلي للعلاقات الاجتماعية، بمعنى أن الاستهلاك يصبح وسيلة الإنسان الأساسية للتمييز وتعريف الذات.
ويصير بذلك الاستهلاك هو خُلُق عالمنا، مدمراً لثوابت الإنسان، أي التوازن الذي كانت تمشي عليه الحضارات منذ الإغريق، منذ بواعث الميثولوجيا وفلسفة اللغة، والثنائية بين الخير والشر.
المادة كشرط أساسي للسعادة
يرى الفيلسوف الفرنسي جون بودريار أننا نضع كل المواد المُصطنعَة، أي الإشارات الرمزية للسعادة، ثم ننتظر يائسين أن تأتي السعادة لتحطّ فوقها. حيث أصبحنا أسرى للاستهلاك، فنضع السعادة في قوالب ومواد ورمزيات مجسّمة وملموسة، كبيت كبير، سيارة جديدة، صالون كبير مع تلفاز ضخم، وغيرها من الرفاهيات.
والتالي أصبحنا اليوم نُعرف بالأشياء، وعين الرّضا تكون بعدد الأشياء التي استطعنا حيازتها، تزيد السعادة بزيادتها وتنقص بنقصانها، أي إننا مسكونون ومُلبّسون بتلك الأشياء عِوض أن نسوقها كوسيلة لا غاية، ثم تدريجياً نصبح عبيداً للأشياء التي نحوم حولها.
ولم تعد المادة أمراً ثانويّاً، بل أصبحت جوهر كل شيء تقريباً، وأصبحت هي ما تعبر عن المكانة الاجتماعية، أو بمعنى آخر الأبّهة الاجتماعية (البرستيج)، وهذا ما انطبع على المادة ذاتها، فأصبحت المادة لا في جودتها بل فيما تمثله، ولتقريب الصورة بشكل أبسط، كصناعة العطور اليوم؛ إذ أصبحت العلبة وطريقة تسويقها هي ما تجذب أكثر مما تحتويه زجاجة العطر من رائحة.
يعيش المُستهلك حرية معلبة، أي يعيش حريته في اختياراته الشرائية فقط، فلا يعي أن حريته تقتصر في تغيير المنتج لا غير، أي إن المستهلك حرّ كالعصفور لكن داخل القفص، يأكل مما يريد، لكن وهو في داخل ذلك البيت الحديدي.
فيشعر الإنسان بحرية مزيفة عندما يختار ماركاته المفضلة أو لباساً معيناً على أحدث موضة، فيقف تفرد الإنسان أو التعبير عن ذاته عند عتبة تغيير القميص أو ماركة الحذاء.
ولا تقف أعراض مجتمع الاستهلاك عند علاقة الإنسان بذاته وأقرانه، بل تخطت ذلك لتسليع كل ما يحيط بالإنسان، فالأشياء التي كانت بالمجان مثل الماء والهواء والطبيعة الخضراء، أقل ما يمكن أن يتوفّر للإنسان، أصبحت عيشةً خاصة لأهل الرفاهية، إذ إن جودة ووجود هذه الأشياء أصبحت محل تجارة أيضاً، بعد أن تفشى التسليع في كل شبر في الحياة.
فتصبح أبسط الحقوق كالهواء النقي والماء الصافي منتجات حكراً على أصحاب الترف، إذ سيشتري بثروته نقاء الهواء وصفاء الماء، وسيشتري بيتاً في الريف بعيداً عن ازدحام المدن وروائح الغازات المنبعثة من السيارات والمصانع، وسيصبح ذا مكانة عالية وسط أقرانه عندما يريهم صوره وهو في الأماكن البعيدة وسط الحيوانات وفي أعالي الجبال وعلى ضفاف الأنهار، سيريهم رحلته التي كلّفته ثمناً باهظاً ليكون بذلك الإنسان الأعلى.
في نهاية الأمر تصبح الأشياء هي ما تعبر عن الذات وتمتلكها، فيصبح الإنسان بلا قيمة، فعلى الرغم من أنه هو من صنع تلك الأشياء، فإنها سريعاً ما تتملكه وتفرض نفسها عليه كتعريف جديد لذاته.
بالتالي تتعالى الفردانية داخل المجتمع، ويبدأ الأفراد في التنافسيّة السطحيّة، والتعرف على بعضهم بما يكسبون لا بما يفقهون، فيتضاعف الاستهلاك، ونصبح في دائرة لا فرار منها.
رغم أنه يوماً بعد يوم تصبح محاولة الخروج من دائرة الاستهلاك محض يوتوبيا خيالية مستحيلة، يظل هناك منفذ وحيد، وهو إدراك المجتمع بعِلَّته الحالية، حينها ربما يمكن أن نعيش بذوات حقيقية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.