تفكرت كثيراً في حديث: "لا تخرج إلا بإذنه" لأسباب متعددة، منها اجتماعية ومنها شرعية:
1- فالمرأة بالإسلام شخصية كاملة العقل والأهلية، ولذلك كلفها الله كما الرجل، وحمّلها الأمانة، وجعلها راعية في بيتها، ومؤتمنة في غياب زوجها، فتكون المسؤولة الوحيدة عن البيت وعن الأولاد، بلا وصاية من أحد.
فهل إذا كانت تعيش في بلد آمن، واحتاجت لشراء طعام من البقالة المجاورة تحتاج لإذن؟ وهل إذا خرجت للنزهة في الحديقة القريبة لنصف ساعة من الزمن تحتاج لإذن؟ والمرأة البالغة العاقلة التي تجاوزت الأربعين، وأصبحت أمّاً لشباب وجدّة لأحفاد، فهل تستأذن زوجها لتخرج لحاجتها وأولادها يخرجون كما يشاؤون (حتى من دون إعلام)، أم يكفي أن تخبر زوجها عن وجهتها وتمضي؟
ألا يؤثر هذا على مكانتها؟ ألا ينال من حرية الإرادة التي أعطاها الله للنفس المسلمة، والتي فرّق فيها بين العبودية والحرية؟ وإن المرأة في بيت الزوجية ليست في حَجر، ولا في حبس، وليست موضع شك، هي أم وعلى أولادها طاعتها لرجاحة عقلها، فلا يصح التقليل من شأنها والتشكيك بصواب قراراتها.
2- والمرأة عليها -كما الرجل- بر والديها، وعيادة المريضة، والتعزية، والمشي بحاجات الناس والإحسان إليهم، والعمل بالدعوة إلى الله. فتحتاج حاجة حقيقية للخروج للخير وللفائدة. وإذا أرادت اتباع السنة وصلة رحمها وزيارة قريباتها، وبر أمها وأبيها والأنس بهما، أو الدخول للشقة الملاصقة لها لتفقد جارتها ساعة من الزمن، فهل تحتاج لإذن؟! أليس هذا مما تعارف عليه الناس، وهو مما أمر به الإسلام من المودة والمرحمة، ووعد عليه بالأجر؟
3- والمرأة شخصية حقوقية كاملة باتفاق الفقهاء، والإسلام أثبت للمرأة ذمةً ماليةً مستقلةً، فالمرأة أهلٌ للتصرفات المالية تماماً كالرجل، وأبيح لها أن تبيع وتشتري وتستأجر وتؤجر وتوكل وتهب، ولا حَجْرَ عليها في ذلك، ما دامت عاقلةً رشيدةً، وقد دلت على ذلك عموم الأدلة من كتاب الله -سبحانه وتعالى- ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فمن ذلك قوله -تعالى-: {فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (سورة النساء الآية 6).
فخروجها ضرورة، وذلك لكي تحافظ على أملاكها وتديرها، وحتى لو وكلت غيرها، فإنها تحتاج للذهاب للمحاكم وكاتب العدل وللمتابعة، وإن جعل الإذن بيد الرجل مطلقاً قد يجعله يتعنت، فتضرر مصالحها، وتفقد أموالها، وقد يؤثر ذلك على مصالح من يشاركها مالها، كالورثة، والقاعدة الشرعية تقول: "لا ضرر ولا ضرار"، وبالتالي هي مضطرة للخروج، ولو منعها لترتب على ذلك خسارة عظيمة لأطراف عديدة.
4- والمرأة لها حق الدراسة والعمل، ولها حاجات أصلية من تسوق وتنزه وتطبب. ولذلك نجد كتب الحديث الصحيحة حافلة بمشاركة النساء بالحياة العامة، ولم يوجد أي إشارة لواقعة أو قصة لامرأة استأذنت زوجها، أو قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تستأذنه، أو هلا استأذنته.
5- الناس قديماً كانوا يعيشون بلا وسائل اتصال، وكان الرجال يغيبون طويلاً، فتستجدّ ظروف تستدعي الخروج، فلا يمكن تقييد الزوجة، وإلا أصبح البيت سجناً، ولم يعد مكان السكن والمودة.
6- وهناك نقطة لا ينتبه لها كثيرون، فليست كل البيوت مريحة، ولا كل البيوت مجهزة بالضرورات، ولا كل البيوت واسعة وتدخلها الشمس، وبالتالي: الخروج ليس ترفاً ولا تسكعاً، وإنما هو ترويح يعيد للمرأة نشاطها، ويحافظ على صحتها، ويزيد صبرها وقوتها، لكي تستطيع الاستمرار بمهامها.
ولكني حين بحثت في كتب الفقه وجدت ما يلي: – يحرم على الزوجة الخروج بلا إذن؛ خوفاً من فوات حق الزوج. وهنا تساءلت: كيف يفوت حقه إذا كان غائباً في عمله، أو مسافراً، أو في قيلولة؟! – ومنهم من اعتبره نشوزاً يحرمها من النفقة، لمجرد خروجها من باب البيت دون استئذان! – ولقد أقر الفقهاء أن الحقوق تتزاحم، وأن خروج المرأة قد يكون لبر أو ضرورة… ورغم ذلك قننه أكثرهم، وأباحوا للزوج منعها (إلا إذا حدث حريق أو سقط المنزل أو دخل لص)، وأوجبوا عليها الطاعة، ولو منعها من زيارة أهلها (مع أنها معصية بينة)!
ولا يزال هذا مثبتاً بالفتاوى المعاصرة، وما زال يكرر ويؤكد عليه باستمرار بالمواعظ اليومية.
وهو ما يشاع ويفتى به على المواقع الموثوقة، مع أن هناك أقوالاً أخرى أقوى وأقرب للشريعة وللواقع: – حيث خالفهم قوم استناداً لحديث: "قد أذن الله لكنّ أن تخرجن في حوائجكنّ (البخاري)"، فالأمر فيه سعة، وفيه أقوال أخرى قوية ومعتبرة، فعلام لا تُذكر، ولا يؤخذ بها؟!
ومن الفقهاء من ربط الخروج بعدم الإضرار بالزوج، ومنهم أيضاً من ربطه بعدم الإضرار بالزوجة؛ فالزوجة أيضاً لها اعتبارها بالشرع وليست مهملة، ومصالحها مهمة، ولا يمكن نسيانها والاهتمام فقط بحقوق الزوج، وهذا قلما يُذكر.
وأضاف المجيزون كلاماً مهماً جداً، وهو: "ما كانت تخرج إليه الزوجة قبل النكاح، من عمل أو نشاط، فهذا لا يحق للزوج منعها منه بعد الزواج، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
وهذا كلام جد مهم، ويتوافق مع القواعد التي وضعها الفقهاء المانعون بأنفسهم، واستنبطوها بعلمهم، فالمعروف عرفاً كالمشروط.
– وأعلن المجيزون أنه لم يصح حديث في لعن الزوجة التي تخرج بلا إذن، وما روي في ذلك ضعيف، من مثل: "… لاَ تَخْرُجَ… فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَتْهَا مَلاَئِكَةُ اللهِ وَمَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْغَضَبِ حَتَّى تَتُوبَ، أَوْ تراجع. قَالَتْ: فَإِنْ كَانَ لَهَا ظَالِمًا؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ لَهَا ظَالِمًا"… ومن حق الزوج على الزوجة أن ا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت ذلك لعنتها الملائكة حتى ترجع أو تتوب"، و"أَيُّما امرأةٍ خَرَجَتْ من بيتِها بغيرِ إِذْنِ زوجِها، كانت في سَخَطِ اللهِ -تعالى- حتى تَرْجِعَ إلى بيتِها أو يَرْضَى عنها زوجُها"، وهو حديث موضوع.
بل هناك ما يخالفه: وفي الصحيح "قد أذن الله لكنّ في الخروج لحوائجكنّ"، وهذا المنطق، خاصة أن لهذا الحديث ما يعضده:
(1) فالنساء حين بايعنه -صلى الله عليه وسلم- لم يأخذ عليهن عهداً باستئذان الأزواج.
(2) ولم يرد بأي حديث أن النبي سأل امرأة -جاءته- إن كانت استأذنت زوجها أم لم تفعل، سواء خرجت لحاجة، أو جاءته لفتوى، أو للصلاة معه بالمسجد، أو للمشاركة في غزوة.
(3) وأفتى بصلة وبر الأم الكافرة، ولم يطلب إذن زوجها.
(4) وعائشة يوم لحقته إلى البقيع لم تستأذنه، ولم يعاتبها.
(5) وهناك من يحتجّ بحديث البخاري: "إذا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أحَدِكُمْ إلى المَسْجِدِ فلا يَمْنَعْها"، فقد فهموا منه أنه عليها أن تستأذن، وبالتالي بيده السماح والمنع، وبالحقيقة، الحديث يُفهم منه أنه لا يجوز له أن يمنعها، لا يجوز، لا يجوز. وبالتالي يكون استئذانها من باب الإعلام.
(6) واحتجّ بعضهم باستئذان عائشة يوم الإفك، وهو مردود: فحسب الرواية استأذنته لأنها تريد البقاء عند أهلها، وهذا الحديث يفسر ويشرح الحديث الذي حيرني "لا تخرج إلا بإذنه"، ويؤكد المعنى الذي توصلت إليه أنا، وهو لب وموضوع المقالة، وهدفها: "الاستئذان لا يكون عن الخروج اليومي وإنما عن المبيت والسفر والمفارقة".
وهو أمر واجب على الزوج كما هو للمرأة، ولذلك استأذن النبي نساءه ليكون عند عائشة. ولقد توصلت لهذه النتيجة حين بحثت في القرآن، وتدبّرت الآيات وتأمّلتها، فقد وجدت شيئاً مثيراً:
– فكلمة "خروج" حين قرنت بالزوجة، استعملت لترك البيت وهجره والخروج إلى غيره: لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج، فإن خرجن فلا جناح عليكم. – وأكثر ما استعملت لفظة "خروج" في القرآن: للسفر، أو المغادرة لوقت طويل، من مثل: فخرج منها خائفاً، خرجتم جهاداً في سبيلي، خرجوا من ديارهم، اخرج منها مذؤوماً مدحوراً.
– واستعملت في مرات قليلة للخروج المعهود: خرجوا من عندك، حتى تخرج إليهم… وهكذا لا يحتاج الخروج اليومي المعروف المعهود لإذن، بعكس ما يُشاع، فلا يجوز منع النساء من الخروج بالمعروف والحبس بالبيوت يكون لمن فعلت الفاحشة والعياذ بالله.
وحتى من الذين منعوه قالوا: يستثنى من ذلك أن تخرج لعذر شرعي، كالخروج إلى قضاء حوائجها المهمة وتعود بعد زمن قصير، لأن العرف يبين لنا رضا الزوج في مثل ذلك، وكالخروج لواجب عليها عند أكثر العلماء كالخروج للسؤال عن أمر دينها، أو للحج الواجب عليها، أو لزيارة والديها عند بعض أهل العلم. وراجعوا فتوى "الددو" الذي يعتبر علامة العصر، فهو من الذين أجازوا لها الخروج بالنهار وبلا إذن، وجعل هذا من حقوقها الطبيعية كإنسان.
وأختم بملاحظة مهمة جداً: عدم وجوب الاستئذان لا يعني أن تصفق الزوجة الباب وتمضي، أو تخفي وجهتها، أو تخرج فجأة، أو في وقت غير مناسب، أو في ظروف تستدعي بقاءها بالمنزل، بل الأجمل والأكمل أن تختار وقتاً ملائماً، وتخبر زوجها بخروجها، وبوجهتها وبالمدة المتوقعة لغيابها، وأن يفعل هو ذلك معها حين يخرج، سواء باتصال أو رسالة تتركها بالبيت أو على الواتس، لكي يطمئن ويعرف أين هي، والموبايلات اليوم وسيلة سهلة للمعرفة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.