من يعتقد أنّ الأزمة الفرنسية في مواجهة الاحتجاجات قد انتهت فعليه أن يُشكك في قدرته على التحليل السياسي، لعدم فهم العمق التاريخي وأبعاد عملية الفصل العنصري، والتمييز الممنهج ضد الأقليات العرقية والإثنية في فرنسا.
أسباب تراجع الاحتجاجات
ما أسهم في إخماد التحركات الاحتجاجية في فرنسا هو الاستخدام المفرط للعنف، والاعتقال التعسفي لآلاف المتظاهرين، وذلك لأن الرئيس الفرنسي اتخذ قرار قمع الاحتجاجات بشدة لأن فرنسا تستعد لاستضافة أحداث رياضية قادمة في البلاد. كما خشي الرئيس الفرنسي من احتمال تكرار تجربة 2005، عندما قامت قوات الأمن الفرنسية بقتل شخصين من أصول إفريقية، واندلعت احتجاجات حينها استمرت لبضعة أسابيع.
ولا ننسى كذلك أن فرنسا استخدمت الوسائل غير القانونية في قمع الاحتجاجات، وذلك دون أن تعلن عن حالة الطوارئ. فالتقارير الأخيرة تشير إلى مشاركة جنود من خارج الخدمة من مشاة البحرية الفرنسية في قمع الاحتجاجات بمدينة "لوريان" غربي فرنسا، والتي تضم قاعدةً عسكريةً كبيرةً. بمعنى آخر، كل من يستطيع حمل السلاح، وكل من كان قادراً على قمع الاحتجاجات شارك في هذه الحملة الشعواء ضد المحتجين.
حقوق الإنسان بحسب المنظور الفرنسي
المتابع لسير السياسة الخارجية الفرنسية لا يخفى عليه أبداً أن الرئيس الفرنسي ووزارة الخارجية لم يتوانَيا لحظةً واحدةً عن انتقاد تحركات الدول الأخرى في التعامل مع الاحتجاجات. ولقد ركَّزا اهتمامهما بشكل كبير على دول الشرق الأوسط. وعندما ظهرت الحركة الاحتجاجية في فرنسا فقد تخلت فرنسا، ومعها منظمات حقوق الإنسان، عن جميع المعايير الأخلاقية، وضربت بهذه المعايير والمُثل عُرض الحائط، ولم تتحمل أي انتقادات حول طريقة تعامل الشرطة وأجهزة الأمن مع المحتجين.
في البدء عملت الحكومة على تزييف الحقائق، من خلال نفي عملية القتل العمد ضد الشاب "نائل"، ومن ثم عملت مع أجهزة المخابرات على تصوير الاحتجاجات على أنها أعمال شغب ونهب وعنف مسلح، ولكن ما تم نشره من مشاركة بعض عناصر الشرطة والأمن في عمليات النهب، أو مشاركة بعض الفرنسيين في هذه العمليات يُدلل بشكل واضح على أن ما تم تصويره للعالم كان عبارة عن مسرحية كبيرة لقمع الاحتجاجات.
عزيزي القارئ، العنف والنهب أمران محكومان، ولا خلاف على ذلك، ولا نتردد ولو لحظة واحدة في إدانته، إلا أن الحركة الاحتجاجية في فرنسا عُمل على تخريبها وتشويه سمعتها، وذلك لسهولة قمعها وتقويضها.
اللافت في الأزمة الأخيرة في فرنسا هو تجاهل وسائل الإعلام الغربية ومنظمات حقوق الإنسان لحقيقة أن هناك مطالب مشروعة يطالب بها المحتجون، وركزت هذه المنظمات ووسائل الإعلام على عمليات التخريب والنهب، دون أي شيء آخر، وهذا ما يُعزز نظرية الكيل بمكيالين بالنسبة لحقوق الإنسان، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالأقليات العرقية أو الأقليات ذات الأصول العربية والمسلمة. ولا نستغرب من هذا النهج المخرّب، وذلك لأن ميزانية هذه المنظمات تأتي من الدول الغربية ذاتها، فكيف لها أن تتخذ موقف الحياد من أعمال العنف الحكومي لهذه الدول؟!
غضب متراكم لعقود من التمييز العنصري والتهميش
في العام 2005، كما ذكرنا أعلاه، لم تستفِد الحكومة الفرنسية من التحذيرات والأخطار لظهور ثورة المقموعين والمهمشين، والتي كان من الممكن أن تتفادها الحكومة الفرنسية من خلال تخليها عن سياسة التمييز العنصري والتهميش الممنهج ضد المهاجرين والأقليات.
تم سَوق الأجيال المهاجرة من المستعمرات الفرنسية إلى الضواحي والأرياف بشكل متعمد، حيث تقلّ فرص العمل بكثير عن مراكز المدن، وكذلك تختلف نوعية التعليم والصحة والخدمات بشكل كبير. هذه السياسة هي التي حوّلت المهاجرين والأقليات العرقية إلى الطبقات الدنيا، واعتبرتهم الحكومة مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة، ولذلك كانت قضية التهميش وعنف الشرطة قنبلة موقوتة، يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
قمع الاحتجاجات بالطريقة الأخيرة التي وقف العالم شاهداً عليها عمل مرة أخرى على إعادة النار تحت الرماد، دون أدنى جهود من الحكومة لحل المشكلة بشكل جذري، وهذا يعني العودة إلى الشارع، بوصفه المتنفس الوحيد لهذه الأقليات أمام التمييز العنصري والتهميش الحَضَري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.