سقطت الحكومة الهولندية الائتلافية بفعل سياسة اللجوء والهجرة، وما يمكن قوله من دون تردد إن ملف اللجوء والهجرة بات محدِّداً أساسياً لتشكيل أي حكومة جديدة، وفي الوقت ذاته سيكون المحرك الرئيسي لتوجهات الناخب الهولندي، عند الذهاب لانتخابات برلمانية مبكرة، غالباً ستجرى في منتصف نوفمبر المقبل، بعد إجازة الصيف وكذا إجازة الخريف في أكتوبر، وفي غضون التسعين يوماً التي يتيحها القانون بعد استقالة الحكومة.
ماذا حدث؟
في العام الماضي كافحت وكالات الإغاثة الهولندية لمساعدة مئات من طالبي اللجوء الذين كانوا يعيشون في مخيم مؤقت خارج مركز استقبال مكتظ، فيما وصفه عمال الإغاثة حينها بالظروف الكئيبة.
وقد أدت الأعداد الكبيرة من الوافدين إلى إجهاد الطاقة السكنية في هولندا، والتي تعاني بالفعل من نقص في البلاد للسكان الذين يتجاوزون أكثر من 17 مليون شخص، حيث زاد عدد الوافدين في العام الماضي عن أربعين ألفاً، ويتوقع أن يصلوا في هذا العام إلى ما يقارب السبعين ألفاً أو يزيد.
وفي ظل هذا التوقع اجتمعت الأحزاب الحاكمة في الحكومة الهولندية مراراً وتكراراً في الأيام الأخيرة، في محاولة منها لإيجاد أرضية مشتركة لسياسة لجوء تراعي هذه المستجدات، وكان مجلس الوزراء يناقش إجراءات الهجرة في جو متأزم. وطرح رئيس الوزراء خطة لتقسيم اللاجئين إلى مجموعتين: واحدة من الفئة "أ"، وهي التي تخشى الاضطهاد الشخصي المباشر في بلدها الأصلي، والتي يمكن لها أن تتمتع بحقوق ومزايا اللجوء، والثانية هي الفئة "ب"، وهي المجموعة التي هربت من خطر عام مثل الحرب، ويريد حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية "VVD" السماح لهذه المجموعة بالبقاء في هولندا لفترة أقصر، وأن يكون حقهم في لمّ شمل الأسرة محدوداً. إلا أن هذه الخطة لم تحظَ بدعم وموافقة حزبَي الاتحاد المسيحي "ChristenUnie"، والديمقراطيون 66 "D66".
وظهر جلياً أن الاختلافات بين الأحزاب الثلاثة السابق ذكرها، بالإضافة إلى حزب النداء المسيحي الديمقراطي، وهي الأحزاب الأربعة المكونة للائتلاف الحكومي، غير قابلة للتوافق في اجتماع الأزمة الأخير، كما قال رئيس الوزراء نفسه في مؤتمر صحفي عقب الاجتماع. وفي النهاية نوقشت جميع أنواع الحلول الوسط، لكنها لم تنجح في جَسر الفجوة وسقطت الحكومة.
هل سنكون أمام حكومة يمينية؟
أثبتت الهجرة أنها قضية مستعصية على الحل بين العديد من الناخبين الأوروبيين والأحزاب السياسية، ما أدى إلى تأجيج شعبية الأحزاب القومية واليمينية في جميع أنحاء القارة، وأدى ذلك إلى انتقادات حادة من نشطاء حقوقيين بشأن الطريقة التي تعاملت بها الحكومات مع المهاجرين.
وعلى مدى العقد الماضي، عندما سعى الآلاف من الأشخاص للحصول على اللجوء في الاتحاد الأوروبي من إفريقيا والشرق الأوسط، اكتسبت الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تعارض الهجرة في بعض البلدان شعبيةً أكبر، وقد دفع نجاحها أحزاب الوسط واليمين إلى التوجه أكثر نحو اليمين فيما يتعلق بسياسة الهجرة واللجوء.
ففي يونيو الماضي حقّق حزب فوكس اليميني المتطرف في إسبانيا أداءً أفضل مما كان متوقعاً في الانتخابات الإقليمية، وفي الخريف الماضي فاز الحزب الديمقراطي السويدي، وهو حزب له جذور في حركة النازيين الجدد، بنسبة 20.5% من الأصوات في السويد، ليصبح ثاني أكبر حزب في البرلمان.
وفي فرنسا، وصلت الزعيمة اليمينية المتطرفة مارين لوبان، التي اتخذت موقفاً مناهضاً للهجرة منذ فترة طويلة، إلى الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية العام الماضي. وفي المجر تشبث رئيس الوزراء فيكتور أوربان بالسلطة جزئياً من خلال إدانته للهجرة.
وفي السياق ذاته، خلال العام الماضي، انتخبت إيطاليا ائتلافاً يمينياً متشدداً بقيادة جيورجيا ميلوني، الذي أثار سجله الطويل في انتقاد الهجرة والاتحاد الأوروبي القلق بشأن المصداقية في التحالف الغربي.
وضمن هذه الأجواء التي تشهدها القارة الأوروبية، وعلى أمل الحصول على مزيد من الدعم السياسي لسياسة لجوء أكثر صرامة، فإن رئيس الوزراء الهولندي المستقيل مارك روته سيكون محكوماً بالتعاون مع أحزاب يمينية مناهضة للهجرة، ويبدو أنه لن يتمكن من تشكيل ائتلاف جديد من دونهم.
ففي استطلاعات الرأي يتطابق كلا الحزبين؛ "الشعب من أجل الحرية والديمقراطية"، وحزب الفلاحين اليميني "BBB" الصاعد حديثاً، فلا يزال متوقعاً أن الحزبين سيحصلان على 23 إلى 29 مقعداً، ومن المتوقع أن ينمو حزب الفلاحين "BBB" إلى حد ما في الانتخابات الجديدة، وسيظل حزب "VVD" كما هو.
ومع هذا، يبدو أن "BBB" و "VVD" محكومان ببعضهما البعض إذا كان عليهما الوصول إلى حكومة أغلبية. حتى لو استبعدنا حزب "PVV" اليميني المتطرف (والذي يتوقع حصوله على 12 إلى 16 مقعداً في الاستطلاع) لأنه يرفض التعاون مع "VVD" تحت قيادة مارك روته، وهو بالمناسبة الشرط ذاته الذي وضعه حزب "BBB" للتفاوض والتعاون، لكن ملف اللجوء قد يفرض نفسه على هذه الشروط.
علاوة على ذلك، لن يكون "ChristenUnie" و "D66" في طليعة قائمة الانتظار للتعاون مع مارك روته وحزبه، لأن الحكومة أصلاً سقطت بسبب إجراءات اللجوء المشددة.
ويبقى حزب "CDA"، الذي يود حزب "VVD" التعاون معه، لكنه مشغول بالصراعات الداخلية وربما يتجه نحو هزيمة انتخابية.
على جانب آخر وصل كل من حزبي "العمل" و"اليسار الأخضر"، اللذين يرغبان في مواصلة العمل معاً إلى 22 إلى 26 مقعداً في الاستطلاع، لكن كلا الطرفين أيد اقتراحات بحجب الثقة كانت موجهة مباشرة إلى مارك روته. علاوة على ذلك لا يمكن لمارك روته الاعتماد على دعم خطط اللجوء الصارمة من "اليسار الأخضر"، فقد رفض زعيم الحزب جيسي كلافر التفاوض معه بهذا الخصوص في حكومات سابقة.
من دون شك يبقى القول الفصل لصناديق الاقتراع، وما ستفرزه في الانتخابات البرلمانية المقبلة، ويبدو مارك روته بوضع صعب جداً، وهذا ما دفعه باتجاه انتخابات برلمانية جديدة، على أمل الحصول على مزيد من الدعم السياسي لسياسة لجوء أكثر صرامة، لكنها في نظر البعض مغامرة قد يدفع ثمنها شخصياً، بحيث تكون الحكومة المستقيلة هي آخر حكومة يكون على رأسها، لاسيما في ظل استطلاعات للرأي أعلن فيها 72% عدم رغبتهم في وجوده على رأس أي حكومة قادمة.
ويبقى أن أهمية قضايا اللجوء والهجرة أصبحت تتصاعد إلى الحد الذي تغدو فيه محركاً وموجهاً رئيسياً لمزاج الناخب الأوروبي، وركيزة أساسية في تشكيل الحكومات، ومحدِّداً لاستقرارها من عدمه، وكل ذلك ينعكس ويرخي بظلاله على الوافدين الجدد، الحلقة الأضعف في هذه السلسلة المعقدة من الحسابات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.